هناك حيثيات مهمة على الرأي العام الوطني استيعابها بشكل متعمق، وهي أن بلاده تعمل على تدبير احتياجاتها التمويلية المحلية والخارجية بما يتوافق مع مستهدفات سياساتها المالية بأقل المخاطر والتكاليف الممكنة؛ وذلك من أجل ضمان تحقيق استدامة وصولها إلى مختلف الأسواق العالمية..
تُمثل رؤية المملكة 2030، مرحلة تحول رئيسة للاقتصاد السعودي، وانطلاقة جديدة نحو المستقبل، واستطاعت الحكومة خلال السنوات الأربع الماضية تنفيذ برامج تحقيق الرؤية، والقيام بالإصلاحات الهيكلية والاقتصادية والمالية، وصناعة المبادرات من أجل تنويع القاعدة الاقتصادية، وجميع الإنجازات السابقة ساهمت في تعزيز قدرة اقتصادنا على الصمود وقت الأزمات؛ وأدت الجهود المذكورة إلى تحسين القدرة الحكومية على الاستجابة للتحديات التي صاحبت جائحة كورونا.
ونجح الاقتصاد السعودي في التعامل مع الصدمات غير المتوقعة التي ضربت منظومة الاقتصاد العالمي، بفضل الله ثم بفضل قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، التي استطاعت تقديم مبادرات ساهمت في تنمية الإيرادات غير النفطية، وهو ما عزز من مرونة ماليتنا العامة.
إن فهم الاقتصاد السعودي يحتاج إلى خبرة عميقة ومتراكمة، وأوضحنا في مقال سابق نشر في أبريل الماضي، أن المملكة ستكون من أقل الدول تأثراً بالجائحة وأسرعها تعافيًا من بين مجموعة العشرين والدول الشرق أوسطية، وهو ما خالف توقعات صندوق النقد الدولي حول انكماش اقتصادنا إلى 6 % ثم خفضها إلى 5 %، وأوضح هذه المسألة بشكل جلي وزير المالية محمد الجدعان، أن السعودية أنفقت أقل من نصف متوسط نسبة ما قدمته دول العشرين، وأن نسبة انكماش اقتصادنا ستكون في حدود 3,7 %، وهي نسبة قليلة مقارنة بتوقعات انكماش اقتصادات دول مجموعة العشرين بأكثر من 6 %، مع نمو متوقع لاقتصادنا العام المقبل بـ3,2 %.
ومن أهم دلالات إعلان الحكومة السعودية لميزانية العام المقبل (2021)، المكاشفة الوطنية والإفصاح المالي والشفافية، وهي إحدى الركائز الأساسية في عملية تطوير وإعداد وتنفيذ الميزانية العامة للبلاد، ورفع كفاءة إدارة المالية العامة، وترشيد وتوجيه الإنفاق.
والدلالة الثانية على ميزانية (2021) أنها تأكيد على توفير كافة السبل للتعامل مع جائحة كورونا، والحفاظ على صحة المواطنين والمقيمين كأولوية قصوى، واستعادة وتيرة النمو الاقتصادي، وتعزيز منظومة الدعم والإعانات الاجتماعية، والخدمات الأساسية، وتحفيز وتمكين القطاع الخاص، ودعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة، مع الحفاظ على الاستقرار المالي الضروري لتحقيق النمو الاقتصادي المستدام على المديين المتوسط والطويل، ولست هنا في معرض الحديث نيابة عن الحكومة، لكن يمكنني القول: إن حكومتنا بذلت جهوداً حثيثة لمراجعة بعض برامج الإنفاق الحكومي، وإعادة ترتيب أولويات وأوجه الإنفاق في بنود الميزانية، وتنفيذ برامج ومبادرات تهدف إلى تمكين ودعم الشركات وتخفيف الآثار المرتبطة بالجائحة، بالإضافة إلى قيامها ببعض الإصلاحات المالية التي تم تنفيذها بشكل متزامن، وفقاً لسياساتها المالية، للمحافظة على المستهدفات المالية والاقتصادية، والانضباط المالي، وتعزيز كفاءة الإنفاق.
والدلالة الثالثة أنه في ظل الأزمة الحالية غير المسبوقة وانعكاساتها على المستويين المحلي والدولي يمكن أن ينشأ عدد من التحديات والمخاطر المحتملة التي تواجه المالية العامة والاقتصاد على المديين القصير والمتوسط، ومن أهمها: التقلبات الحادة لأسعار النفط، وأثرها على الإيرادات النفطية، ومخاطر تباطؤ تعافي الاقتصاد العالمي جراء الجائحة واستمرار أثرها السلبي للعام المقبل، ومخاطر عدم تحقيق المعدلات المستهدفة للنمو الاقتصادي المحلي في ظل تبعات الأزمة محليًا ودوليًا، لكن ما يطمئنني أن التدابير التي اتخذتها حكومتنا للسيطرة على أعداد الإصابات، للحد من انتشار الفيروس، أتاح للاقتصاد فرصة العودة التدريجية خلال الربع الثالث من العام الجاري، وتقليل مخاطر العودة للإغلاق مرة أخرى، كما حدث في بعض الدول، خاصة ما تحمله من آثار مالية سلبية على الاقتصاد قد تماثل أو تفوق ما حدث في الموجة الأولى من الجائحة، وبناء على ذلك من المتوقع استمرار التعافي الاقتصادي التدريجي خلال الربع الرابع من العام الجاري، وتعافي النمو في العام المقبل إن شاء الله.
وتتمثل الدلالة الرابعة في دعم الحكومة لنفقات الخدمات الصحية، واستحداث “مخصص مواجهة الأزمات” يُعنى بإعادة تخصيص النفقات، وتوجيهها للقطاعات الأكثر ضررًا، بهدف تعزيز استمرار المشاركة الفعالة للقطاع الخاص، وتضافرت جهود الجهات الحكومية بإطلاق وتنفيذ عدد من المبادرات والإجراءات؛ للتخفيف من آثار الأزمة الصحية العالمية، شملت الحزم التحفيزية المقدمة على شكل مبادرات لدعم كل من الأفراد والشركات والمستثمرين.
ومن المهم أن يعلم المواطن، أن بلاده تتمتع بمركز مالي قوي، نظراً إلى حجم احتياطاتها الكبير مع ديون حكومية منخفضة نسبياً، وهو ما مكنها من مواجهة أزمة الجائحة على الرغم من آثارها المالية والاقتصادية الكبيرة، وهو ما أكدته وكالات التصنيف الائتماني على قوة ومتانة اقتصادنا الوطني وقدرته على مواجهة الأزمات والتحديات التي يشهدها العالم حالياً، لذلك استمرت حكومتنا في تنفيذ الإجراءات الاحترازية الكفيلة بالحماية الصحية، مع اتباع تدابير مالية ونقدية لاحتواء المخاطر المالية والاقتصادية.
أخيرًا؛ هناك حيثيات مهمة على الرأي العام الوطني استيعابها بشكل متعمق، وهي أن بلاده تعمل على تدبير احتياجاتها التمويلية المحلية والخارجية بما يتوافق مع مستهدفات سياساتها المالية بأقل المخاطر والتكاليف الممكنة؛ وذلك من أجل ضمان تحقيق استدامة وصولها إلى مختلف الأسواق العالمية، اللهم احفظ بلادنا وأنعم علينا بفضلك.