كيف ينظرون إلى قيادتنا السياسية السعودية؟

علينا كرأي عام وطني أن نستوعب جيدًا أن ولي العهد يسعى من خلال التحركات الجيوسياسية هنا وهناك، إلى التأكيد على القوة الإقليمية للمملكة؛ وذلك من خلال استخدام مكانة بلادنا وتربعها على قمة عملاق الطاقة “النفط”..
هناك اهتمام متصاعد بالنظرة الإعلامية الغربية والأميركية والشرق أوسطية بالتحركات كافة التي تقوم بها القيادة السياسية السعودية في العديد من المحاور الإقليمية والدولية، وهو الأمر الذي أشارت إليه صراحة بعض المراصد البحثية عندما وصفت الحضور السعودية بالفاعل، وقدرة إدارته السياسية في بلادنا على توجيه الدفة في الوقت المناسب، بما يُحقق مصالح أمنها القومي الذي لا ينتهي عند الحدود الجغرافية التقليدية. في كتاباتي وتدويناتي المختلفة دائمًا ما أركز على العبارة التالية، وهي: “المملكة العربية السعودية ليست دولة طارئة، إنما دولة تستند إلى عمق سياسي متجذر لأكثر من 300 سنة”، ما معنى هذا السياق؟.. معنى ذلك أن حكومتنا اليوم بقيادة خادم الحرمين وولي العهد تعي جيدًا مفهوم “الواقعية السياسية”، وهي في الحقيقة نظرية مهمة مُترسخة في مدارس العلاقات الدولية، وقد كان التأصيل الحقيقي لهذه النظرية من خلال هانز مورجانثو في كتابه “السياسة بين الأمم”، حيث أرسى فيه أهم مقولات ومفاهيم هذه المدرسة. المقدمتان التأسيسيتان السابقتان كانتا مهمتين كمدخل لتقرير نشرته وكالة رويترز في الرابع والعشرين من مايو الجاري، وبرأيي أنه من المهم نقل بعض تصوراته للمشهد الوطني والإعلامي في المملكة العربية السعودية؛ لإعطاء مزيد من الجرعات التثقيفية التوعوية السياسية تجاه التحركات التي يقودها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، هذا أولًا، أما ثانيًا فلتعميق فهمنا بالدور الذي تقوم به حكومتنا لتعزيز مصالح شعبها، ومنطقتنا الإقليمية على العموم، وإخراجها من عنق زجاجة التجاذبات والانقسامات السياسية، إلى مسار “الاستراتيجية التنموية”، حيث الكل رابح. السعودية ليست دولة جامدة، بل دولة قارئة وسباقة لفهم المتغيرات الدولية التي تتجه إلى تعددية الأقطاب، وهذا ما يظهر في الإشارات الاستهلالية التي قدمتها رويترز في تحليلها بشكل غير مباشر، وهو أن الأمير محمد بن سلمان يتحرك بسياسة بلاده وفق ما يعرف بـ”الحقائق الجيوسياسية”، وهذه نقطة مركزية لإعادة سورية إلى مقعدها في جامعة الدول العربية، واستقبال الرئيس بشار الأسد في القمة العربية (الدورة 32) التي احتضنتها جدة، رغم الرفض والاعتراض الأميركي والأوروبي. علينا كرأي عام وطني أن نستوعب جيدًا أن ولي العهد، يسعى من خلال التحركات الجيوسياسية هنا وهناك، إلى التأكيد على القوة الإقليمية للمملكة العربية السعودية؛ وذلك من خلال استخدام مكانة بلادنا وتربعها على قمة عملاق الطاقة “النفط”. ومن النصوص المهمة التي أسردها بتصرف -على لسان رويترز- :” لقد ظهر الأمير محمد بن سلمان اليوم كلاعب لا يمكن لواشنطن تجاهله أو التنصل منه، ولكن يجب التعامل معه على أساس الندية، وبسبب تشككه –أي ولي العهد- من الوعود الأميركية بشأن الأمن السعودي، فإنه قام بخطوات ديناميكية نوعية، من خلال بناء علاقات مع القوى العالمية الأخرى، وإنه بغض النظر عن ذعر واشنطن، فهو يعيد بناء علاقاته مع خصومها المشتركين –في إشارة إلى روسيا والصين- وفق منطق المصالح المتبادلة، لا منطق التبعية”. يذهب تحليل رويترز –مع اختلافي مع بعض فقراته– إلى أن واشنطن بدت في السنوات الأخيرة أقل انخراطًا في الشرق الأوسط، وأقل تقبلًا لقلق الرياض من بعض الملفات، إلا أن الأمير محمد بن سلمان فرض سياسته الإقليمية الخاصة مع احترام أقل وضوحاً لآراء أقوى حليف للمملكة، وهي إشارة قوية للولايات المتحدة الأميركية بأننا نعيد تشكيل وإعادة رسم علاقاتنا من دونكم، فالأمن القومي الوطني هو الأساس في ذلك. ما أود ذكره هنا كمراقب للشأن السياسي السعودي، أنه عندما تتحرك القيادة السياسية في بلادنا لإغلاق بعض الملفات العالقة مع بعض الخصوم الإقليميين، فإن تحركاتها تنصب لتعزيز الأمن الإقليمي، وهو سياق متقدم جدًا عن مفهوم الدولة الوطنية المنحصرة على ذاتها الجغرافية التقليدية.. دمتم بخير.  

قمة جدة.. نظرة عميقة على التنمية المُستدامة

نلاحظ أن هناك رغبة جادة في التحول إلى تعظيم القوة العربية الإقليمية باستخدام الأدوات الناعمة لا الصلبة، وهذا ذكاء سياسي، وهو لب “قمة جدة” التي حرصت عليه القيادة السياسية السعودية – رئيسة الدورة الحالية – وهو ما حاز على اهتمام استثنائي عالمي سواء كان سياسيًا أو إعلاميًا..
كان من المهم بُعيد انتهاء أعمال القمة العربية للدورة الـ32 التي عُقدت نهاية الأسبوع الماضي، التركيز بعض الشيء على فهم توجهات بعض الأطراف العالمية الإعلامية ورؤيتها تجاه قمة جدة والمآلات التي ترتكز عليها، خاصة أن هذه الدورة تأتي في ظل ظروف استثنائية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. الصحافة الغربية عمومًا كانت على نقيضين تمامًا، من نظرتها للقمة قبل وبعد انتهاء أعمالها، فالدوافع السياسية للأنظمة الغربية تطابقت بشكل كبير مع منصاتها الإخبارية والتحليلية بشكل سلبي، ويمكن الإشارة إلى “الغارديان” البريطانية و”الواشنطن بوست” الأمريكية، وغيرهما الكثير. هذا السخط والغضب مفهوم تمامًا لعدم رغبتهم في رؤية تكامل عربي مُشترك، يُحقق رغبات الشعوب العربية، فضلًا عن امتلاك العرب لمقومات البقاء ومواجهة التحديات. لنكن صرحاء ومن دون مجاملات سياسية، فإن المملكة العربية السعودية تعي تمامًا طبيعة المرحلة المقبلة على مستوى المنطقة، وهي تتحرك فعليًا لتأمين الأمن القومي العربي، عبر الالتفات إلى التنمية الاقتصادية المُستدامة، بدلًا من أجواء الصراعات والانقسامات التي شكلت واقعيًا عبئًا كبيراً على حاضرتنا العربية. لست هنا في معرض التسويق للمملكة العربية السعودية أو قيادتها السياسية، لكن ما أستطيع التأكيد عليه هو أن إدارتنا السياسية استطاعت تقديم خارطة طريق لإخراج المنظومة العربية من ضائقتها الحالية إلى التوسع التنموي، وهو بصراحة ما أرادته الشعوب منذ عقود طويلة، هذا أولًا، أما ثانيًا – وهو الأهم برأي – فإن على العرب أن يعيدوا تموضعهم السياسي والاقتصادي والجمعي والأمني، ورسم آفاق جديدة للسياسة الخارجية في ظل الفرص الناشئة في النظام العالمي المتغير؛ انطلاقًا من كوننا عنصرًا فاعلًا وليس مفعولًا به، بحسب وصف أمين جامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط. ما لاحظته من تبعات هذه القمة وبيانها الختامي، أن هناك رغبة جادة في التحول إلى تعظيم القوة العربية الإقليمية باستخدام الأدوات الناعمة لا الصلبة، وهذا ذكاء سياسي، وهو لب “قمة جدة” التي حرصت عليه القيادة السياسية السعودية – رئيسة الدورة الحالية – وهو ما حاز على اهتمام استثنائي عالمي سواء كان سياسيًا أو إعلاميًا، ولعلي أشير هنا إلى ما طرحته صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية اليسارية، التي خلصت إلى أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، نجح من خلال عودة سوريا بقرار من جامعة الدول العربية، ثم الوصول المفاجئ لفولوديمير زيلينسكي، في أن يجعل من القمة حدثًا عالميًا غير مسبوق؛ بينما يجذب عادة (القمة العربية) اهتمامًا محدودًا جدًا من وسائل الإعلام. هذا الاستثناء للقمة العربية؛ يعود من وجهة نظري المتواضعة إلى فاعلية التوجه السعودي من نقل المنطقة من مربع الصراعات والنزاعات إلى نقطة مفصلية تقوم على مبدأ مهم، وهو “التنمية الاستراتيجية”، كما أنه تأكيد على الوزن الثقيل للمملكة العربية السعودية في العالم العربي. وبعيدًا عن “التصدعات السياسية”، فإن المبادرات النوعية والمهمة التي ستعمل عليها المملكة خلال رئاستها للدورة الحالية تتسق مع التموضع التنموي للقمة، وهو “مبادرة إنشاء حاوية فكرية للبحوث والدراسات في الاستدامة والتنمية الاقتصادية”، الأمر الذي سيتمخض عنه احتضان التوجهات والأفكار الجديدة في مجال التنمية المستدامة وتسليط الضوء على أهمية مبادراتها في المنطقة العربية لتعزيز الاهتمام المشترك ومتعدد الأطراف بالتعاون البحثي وإبرام الشراكات الاستراتيجية.. دمتم بخير.  

مُحددات السلوك السياسي السعودي والمتغيرات الجيوسياسية

انطلاقًا من سياقها القيادي المحوري، أعادت الرياض قراءة أولوياتها الاستراتيجية بما يتفق مع مصالحها وأمنها القومي ومصالح الإقليم في الوقت نفسه، وهو الجوهر المهم إذا ما أردنا فهم مُحددات السلوك السياسي السعودي، ورؤيتها في تحريك المياه الراكدة منذ زمن ليس بالقصير، وحلحلة العديد من القضايا العالقة والمعقدة جدًا..
في الفترة القريبة الماضية طالعت الكثير من التقارير التحليلية الصادرة سواء عن مراكز البحث والتحليل الاستراتيجي، أو كبريات الصحف الغربية الرصينة منها وغير الرصينة، والتي تناولت بشيء من التركيز المتعمق دلالات ومتغيرات السلوك السياسي السعودي تجاه أهم منطقة جيوسياسية في العالم الغنية بالنفط والغاز ومصادر الطاقة. علينا مواجهة بعض الحقائق إذا ما أردنا فعليًا استدراك واستيعاب “السلوك السياسي السعودي” وتبعاته المختلفة بعيدًا عن الإسقاطات والأجندات السياسية غير المتوافقة معنا، فاليوم وبما لا يدُع مجالًا للشك هناك تغيرات ديناميكية سريعة تحدث على مستوى المنطقة ككل -وهذا لا يخفى على أحد- والسعودية شاءت أم أبت جزء لا يتجزأ من هذه المنظومة الإقليمية. أدى تراجع الولايات المتحدة الأمريكية عن سياق التزاماتها الأمنية الإقليمية، فضلًا عن تزايد حدة الانقسامات والصراعات، إلى دفع الإدارة السياسية السعودية لأخذ زمام المبادرة كدولة قائدة للعالم العربي والإسلامي، في محاولة حثيثة منها لإدارة مركب البوصلة السياسية إلى بر الأمان لها ولشقيقاتها في المنطقة. انطلاقًا من سياقها القيادي المحوري، أعادت الرياض قراءة أولوياتها الاستراتيجية بما يتفق مع مصالحها وأمنها القومي ومصالح الإقليم في الوقت نفسه، وهو الجوهر المهم إذا ما أردنا فهم مُحددات السلوك السياسي السعودي، ورؤيتها في تحريك المياه الراكدة منذ زمن ليس بالقصير، وحلحلة العديد من القضايا العالقة والمعقدة جدًا، بهدف تعزيز السلم والأمن الإقليمي، وإخراج المنطقة من دائرة الصراعات والنزاعات، على الرغم من التحديات الكبيرة التي واجهتها في سبيل ذلك، وعدم موافقة بعض القوى الدولية الكبرى، إلا أنها استطاعت بدبلوماسية الأطراف الهادئة والفاعلة إلى تحقيق “التوازن” لنقل المنطقة من مرحلة معقدة إلى مرحلة الاستراتيجية التنموية. ما يؤكد هذه الاتجاهات ما نشرته مجلة “فورين بوليسي” العريقة من أن المملكة العربية السعودية تحظى اليوم بشعبية كبيرة في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما أظهره استطلاع حديث أجرته مؤسسة “غالوب” في 13 دولة ذات أغلبية مسلمة، ذكرت فيه أن السعودية كانت الأكثر شعبية، وكانت سياسيات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الداخلية والخارجية محل إعجاب مجتمعات الدول المستطلعة. في العامين الأخيرين تحديدًا كانت هناك تعديلات دقيقة ديناميكية في السياسة السعودية الخارجية، تمثلت في توسيع نطاقات التحركات لما هو أبعد من الإقليم، وهذا يحسب لقيادتنا الوطنية، فالمملكة بموقعها الاستراتيجي وقدراتها المالية الهائلة، فضلًا عن خططها الاستثمارية هنا وهناك، وسياساتها الإنسانية المركزة، جعل منها مُحركًا فاعلًا يجتمع على طاولتها الأطراف المتضادة أو غير المتوافقة على أدنى تقدير، وهو ما يُعزز الضمانة الأمنية والاستقرار لها ولدول الإقليم، ويكمن نجاحها هنا في تحقق عوامل “التوازن البراغماتي”. مع المتغيرات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة، والأولويات الاستراتيجية المتغيرة، وعت الرياض أكثر من غيرها، بأهمية دراسة المخاطر التكتيكية التي يمكن أن تُهدد تغيير المواقف، من خلال عملها الجاد والمؤسسي الدبلوماسي على توفير الحوارات الضمنية الإيجابية مع مختلف مراكز القوى الإقليمية، ووصول الأطراف جمعيًا إلى قناعة تامة بأهمية تعزيز مسألة الأمن والتنمية والازدهار لتحقيق الرفاهية لشعوب المنطقة، خاصة مع تراجع الاقتصاد، وزيادة معدلات البطالة، وتراجع مؤشرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.. دمتم بخير.