تتحمل «سدايا» مهمة رسم قواعد السعودية الجديدة، من خلال ترسيخ مفاهيم الذكاء الاصطناعي في «الاقتصاد المعرفي»، وتأهيل القدرات البشرية الوطنية، وهي مهمة ليست سهلة، ولكنها ليست مستحيلة أيضاً..
قبل 133 يومًا كتبتُ مقالًا بعنوان “تنقيب السعودية عن نفط المستقبل”، وكان من أهم السياقات الواردة فيه، أن الخريطة السعودية الفعلية مع الذكاء الاصطناعي بدأت مع انطلاق رؤية 2030، والتي شكلت أحد العوامل الرئيسة في خطة الإصلاح الاقتصادي، المرتكزة على الابتكار والنمو، وما يؤكد هذه الوجهة “الوعي الاستراتيجي” لدى هرم القيادة العليا، وإدراكها بأهمية هذه التحولات.
لم يُعد “الذكاء الاصطناعي” للسعودية “حبرًا على ورق”، بل أصبح مكونًا أساسيًا من منظومة عقلية “الاقتصاد المعرفي” لرسم حاضرها ومستقبلها، وما يؤكد ذلك كلمة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان خلال افتتاح “القمة العالمية للذكاء الاصطناعي” في نسختها الأولى، تحت شعار “الذكاء الاصطناعي لخير البشرية”، وهي من تنظيم الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي “سدايا”، إلا مثالًا استراتيجيًا على سعى المملكة الدؤوب لتُصبح ملتقى رئيسًا للعالم في هذا القطاع الحيوي، خاصة أن العام الجاري كان عامًا استثنائيًا لاختبار قدرات الذكاء الاصطناعي لمواجهة التحديات التي فرضتها جائحة كورونا، والتي نجحت فيها بجدارة.
ومن المهم النظر للقمة من زاوية تهيئة المملكة لتكون منصة عالمية بارزة جامعة لصُناع القرار، والخبراء والمختصين، والأكاديميين في القطاعات الحكومية والخاصة من مختلف أنحاء العالم، وهي فرصة استراتيجية لاستكشاف ما يعنيه المشهد العالمي الجديد للذكاء الاصطناعي، وإمكانات استخدامه على أفضل وجه لبناء مستقبل أفضل للجميع.
ربما السؤال الذي قد يطرحه البعض: هل السعودية جادة لتكون جزءًا من منظومة الذكاء الاصطناعي العالمي؟.. الإجابة نعم بكل تأكيد، ليس هذا فحسب، بل تريد أن تكون محور استقطاب عالمي في هذا المجال، واستضافتها لاجتماع الطاولة المستديرة التشاوري حول تشكيل هيئة استشارية تُعنى بمجال الذكاء الاصطناعي وتتبع لهيئة الأمم المتحدة، وهو التزام من الرياض بدعم المجتمع الدولي، والمساهمة في المناقشات العالمية لبلورة مستقبل الذكاء الاصطناعي للبشرية جمعاء.
وما يدلل على جدية السعودية، فخلال العامين الماضيين، كانت نسبة جاهزية السعودية للتطور التقني، من أعلى الدول على مستوى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وانتقل ترتيبها من مرتفع إلى مرتفع جدًا.
ومن الملامح المهمة تقدم المملكة الكبير في مؤشرات الذكاء الاصطناعي وتقنية المعلومات، فبعد أن كان ترتيبها يتجاوز السبعين، أصبحت اليوم ما بين المراتب الثلاثين إلى الأربعين، والأهم من ذلك ما تتطلع له الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي “نُسدي”، خلال عشر سنوات، إلى سد الفجوة في سوق العمل المحلي من خلال رفده بـ 20 ألف مختص في هذا المجال، وجذب 45 مليار ريال بين استثمارات داخلية وخارجية، وزيادة الإنتاج العلمي بـ 600 براءة اختراع، ودعم تأسيس 300 شركة متخصصة في الذكاء الاصطناعي تتبع رواد الأعمال السعوديين.
وما يحفز السعودية لحجز موقعها على الخريطة العالمية ما أشارت إليه عدد من الدراسات من أن الذكاء الاصطناعي سيضيف للاقتصاد العالمي بحلول 2030 أكثر من 10 تريليونات دولار.
وحسنًا فعلت “سدايا” على هامش القمة، والتي لم تأخذ نصيبها في المسارات التحليلية، من خلال توقيع مذكرتي تفاهم نوعية ستضفي – بمشيئة الله- أبعاداً محورية على “اقتصاد المعرفة”، الاتفاقية الأولى كانت مع الاتحاد الدولي للاتصالات، من أجل دعم جاهزية البلدان والتعاون الدولي الأقل نموًا في الذكاء الاصطناعي، وإيجاد منظومة عالمية مُعترف بها تتولى حشد الموارد وتوفير الدعم للجهات الرسمية لتبني تكنولوجيا هذا المجال، واعتمادها لتلبية مختلف متطلباتها الاقتصادية، كما ستتيح مشاركة الاتحاد مع المملكة أفضل الممارسات العالمية في هذا المجال، لذلك يتطلع الاتحاد الدولي للعمل مع “سدايا” لتطوير المشروعات والمبادرات التي ستسرع التقدم نحو أهداف التنمية المستدامة، وتعزيز الذكاء الاصطناعي كقوة إيجابية للبشرية والكوكب.
أما الاتفاقية الثانية، فكانت مع العملاق الصيني “شركة علي بابا للحوسبة السحابية”، بهدف تأسيس شراكة استراتيجية لقيادة الابتكار في المدن السعودية الذكية، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتطويرها بمواصفاتٍ عالمية، وتمكينها من الاستجابة بفاعلية أكبر لاحتياجات ورغبات السكان للارتقاء بجودة الحياة، وتحويلها إلى مدن أكثر استدامة من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، باعتبارها من الأصول الوطنية التي يتوجب تطويعها، وهو ما يتماشى مع الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي، والجهود الرامية لرفع مستوى الابتكار، وزيادة قدراتها لتحويل المملكة إلى الاقتصاد القائم على البيانات بحلول 2030، من خلال ثلاثة أذرع هي: مكتب إدارة البيانات الوطنية، ومركز المعلومات الوطني، والمركز الوطني للذكاء الاصطناعي، على تنظيم قطاع البيانات وتمكين الابتكار والإبداع.
أخيرًا.. تتحمل “سدايا” مهمة رسم قواعد السعودية الجديدة، من خلال ترسيخ مفاهيم الذكاء الاصطناعي في “الاقتصاد المعرفي”، وتأهيل القدرات البشرية الوطنية، وهي مهمة ليست سهلة، ولكنها ليست مستحيلة أيضاً، لذلك كانت دعوة ولي العهد السعودي واضحة تمامًا عندما قال بالنص “أدعو كافة الحالمين للانضمام للمملكة لبناء اقتصادات المعرفة”، وهي ترجمة حقيقية لمفهوم أن “البيانات نفط المستقبل” للحاق بركب الدول المتقدمة.