يتساءل السعوديون فيما بينهم كل يوم عبر مجموعات الواتساب عن مصير مرتباتهم، ومدى احتمالية أن يلحق ببدلاتهم قرار ترشيد الإنفاق الحكومي، خاصة بعد حديث وزير المالية محمد الجدعان لقناة العربية حول الإجراءات التي ستتخذها المملكة للحفاظ على تماسك اقتصادها؛ بعد تأثره بتداعيات جائحة فيروس كورونا.
لا يعلم بعض عامة الناس من الشعب السعودي، أن أسعار سوق النفط العالمي متقلبة منذ العام 2014، ولكن هذا التراجع لم يمنع الحكومة السعودية من مواصلة التوظيف الحكومي، أو تشييد المشروعات من المدارس والمستشفيات، أو دعم القطاع الخاص لتعزيز نمو الناتج المحلي، على الرغم من أن سعر البرميل الأسود الواحد لم يتجاوز في بعض فتراته ما قيمته 30 دولارًا أميركيًا، وحتى نجيب ببساطة عن سؤال الكثيرين الوارد في مقدمة المقال أقول: “إن حكومتنا لن تقتطع من رواتب الموظفين الأساسية مهما كانت درجة تألم اقتصادها”.
في تصوري أن أهم البنود التي جاءت في حديث الوزير الجدعان، هو التعويل على “صندوق الاستثمارات العامة” للمساهمة في إعادة تموضع تركيبة الاستدامة الاقتصادية والمالية للبلاد على المديين المتوسط والبعيد، وليس فقط خلال فترة سريان “تقنين الإنفاق الحكومي”؛ وذلك من خلال إعادة هندسة تصيد الفرص الاستثمارية المحلية عمومًا، والدولية على وجه الخصوص، التي ستكون فرصة سانحة للدخول فيها في ظل تراجع أسعار الأصول بعد “الهزة الاقتصادية الكورونية”، وتحقيق عوائد تغطي عجز الميزانية العامة للدولة.
لا يمكن النظر للصندوق باعتباره أحد القطاعات الاقتصادية العادية، فهو بمثابة الذراع الاستثمارية الأساسية للمملكة، القائمة وفق استراتيجية تركز على تحقيق العائدات المالية الضخمة ذات القيمة طويلة المدى للبلاد، وإذا لاحظتم فإن وزير المالية الجدعان، وهو عضو في مجلس إدارة صندوق الاستثمارات العامة، كان يُشير بأكثر من الوضوح إلى الدور الذي يمكن أن يساهم به صندوقنا السيادي في تنويع اقتصادنا المحلي، من خلال صناعة الفرص الاستثمارية، وتأكيده الحازم بمقولة “من رحِم الأزمات تُصنع الفرص”.
ومن المهم أن نلتفت إلى ما جاء في سياق تقرير سابق لصحيفة “فايننشال تايمز” Financial Times البريطانية العتيقة في الأعمال التجارية الدولية، وحديثها من أن “صندوق الثروة السعودي، بدأ بالفعل على مدار الأسابيع الماضية في اقتناص الفرص، وهي بطبيعة الحال سياسة ينتهجها صندوق الاستثمارات العامة في إطار الرؤية الطموحة 2030، لخلق سلة اقتصادية متنوعة تتمتع بالنمو المستدام البعيد عن مداخيل النفط والغاز، واشترى الصندوق مؤخرًا حصة 8,2 % في شركة كارنيفال لرحلات السفن السياحية وسهم الشركة المدرجة في نيويورك، بجانب شراء حصص في شركات نفط أوروبية، بما في ذلك حصة تقدر بـ200 مليون دولار في شركة النفط الحكومية النرويجية “Equinor”.
وذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال”، أن الصندوق قام أيضًا ببناء حصص في كل من Royal Dutch Shell وTotal وEni بقيمة إجمالية تبلغ حوالي مليار دولار، ويدير أصولاً بأكثر من 300 مليار دولار، ولديه حصص في أوبر ولوسيد موتورز لإنتاج السيارات الكهربائية، كما خصص 45 مليار دولار لصندوق رؤية سوفت بنك البالغ حجمه 100 مليار دولار، ويخطط للاستحواذ على 80 % من ملكية نادي “نيوكاسل يونايتد” الإنجليزي لكرة القدم.
خلال مؤتمر افتراضي عقدته مؤسسة مبادرة مستقبل الاستثمار، وضع محافظ صندوق الاستثمارات العامة ياسر الرميان النقاط على الحروف حينما قال: “نبحث عن أي فرصة وبمجرد انفتاح الاقتصاد أعتقد أننا سنرى الكثير من الفرص”.
انتهى كلام الرميان ولم تنتهِ أفكار وطموحات مهندس الصندوق الحقيقي وعرّابه الأمير محمد بن سلمان الذي استطاع إحياء الصندوق وتجديد عروقه الاستثمارية والاقتصادية، حينما نقل عهدته من وزارة المالية إلى مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية مطلع مارس 2015.
نستطيع القول اليوم، إن الرياض تدير اقتصادها بطريقة حديثة ووفق خطة محكمة تضع كل السيناريوهات على الطاولة، ثم تتخذ على إثرها القرارات في الوقت الصحيح دون تأخير؛ ولذلك من الحكمة أن نقتنص الفرص الأجنبية الواعدة ليستثمر فيها صندوقنا السيادي.
ختامًا على السعوديين التعايش مع مناخ أزمتنا الراهنة وألا يركزوا على “تقنين الإنفاق الحكومي” بل على الأبعاد الاستراتيجية، فبلادنا اليوم تعيش مرحلة اقتصادية مفصلية، ويعد رهاننا على صندوق الاستثمارات العامة بمثابة “الورقة الرابحة” التي ستعزز من حضور المملكة الاستثماري العالمي بعيدًا عن مداخيل النفط ومضارباته وهبوط أسعاره، وهو ما نؤمل عليه بعد الله من خلاله، خاصة أنه يسعى بأن يُصبح واحداً من أكبر الصناديق السيادية على مستوى العالم ولنا في النرويج خير مثال.