إذا أخذنا تأثير ذلك النزاع التجاري على جانب «تدفقات الاستثمار»، نستطيع الإدراك أن الصين أصبحت أحد أصحاب المصلحة الذين تزداد أهميتهم في برامج التنويع الاقتصادي لدول الخليج، فقد تضاعفت التجارة الثنائية بينهما خلال الفترة (2005 – 2019) بمقدار ثلاثة أضعاف لتصل إلى 170 مليار دولار..
في سبتمبر الجاري، صدر عن مركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية “كابسارك” تحليل نوعي مهم يقع في 10 صفحات، بعنوان “تأثير النزاع التجاري بين الولايات المتحدة الأميركية والصين على دول مجلس التعاون الخليجي”، أعدته دونمي تشن وهي خبيرة في قطاع الطاقة الصيني وتطوير سياسات التغير المناخي لأكثر من 20 عاماً، وقبل انضمامها للعمل زميلا باحثا في “كابسارك”، عملت في قطاعات حكومية وغير حكومية وتتركز خبرتها في التعريف بأفضل ممارسات التنمية والتصنيع للمساهمين في الطاقة، وذلك خلال عملها مستشارًا أول ورئيس قسم الصناعة في وزارة الصناعة الصينية.
من المهم معرفة أن حدة النزاع التجاري بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، تصاعدت بعد أن وقع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 22 مارس 2018، مذكرة توجه الحكومة الأميركية على التحقيق بشأن الأنشطة الاقتصادية الصينية، والسياسات التجارية، والممارسات المتعلقة بنقل التكنولوجيا والملكية الفكرية والابتكار بموجب الفقرة 301 من قانون التجارة الأميركي لعام 1974، وقد جرت العديد من جولات التفاوض بين البلدين جيئة وذهابًا، إلى جانب التصعيد الثنائي للتعريفات التجارية لما يقارب العامين قبل توقيع المرحلة الأولى من الصفقة التجارية بينهما في الخامس عشر من يناير الماضي (2020).
وأهم مفاصل تقرير “كابسارك” السؤال المركزي الذي استندت عليه الباحثة تشن، وهو: كيف يؤثر النزاع التجاري بين الصين وأميركا على دول الخليج؟ خاصة أن العلاقات تدهورت بين القطبين العالميين، بدرجة كبيرة منذ بدء النزاع التجاري، ولم توقف المرحلة الأولى من الاتفاق التجاري الذي تم التوصل إليه في يناير تصاعد حدة الخلاف بين البلدين، غير أن المواجهة الممتدة ستلقي بظلالها على الاقتصاد العالمي، وستضيف الأزمة التي طال أمدها تحديات إضافية إلى الوضع الاقتصادي والسياسي المعقد بالفعل لدول الخليج، ويمكن ملاحظة الأثر الفوري والمباشر لهذه الأزمة على تجارة الطاقة وتدفقات الاستثمار.
ويمثل النزاع التجاري تغيرًا هيكليًا ومنهجيًا في العلاقات بين البلدين؛ إذ قد ينظر إلى طموح الصين في الريادة في ساحة التنمية الدولية على أنه تطور طبيعي لنفوذها العالمي المتزايد، غير أن الطريقة التي يتعامل بها مسؤولو الحكومة الأميركية وقادة الرأي مع مبادرة الحزام والطريق (BRI) ومبادرة “صنع في الصين 2025″، أظهرت إلى حد كبير مخاوفهم بشأن النفوذ الاقتصادي والسياسي الصيني المتنامي، ومدى تأثيره في مجال الأمن القومي.
وإذ أخذنا تأثير ذلك النزاع التجاري على جانب “تدفقات الاستثمار”، نستطيع الإدراك أن الصين أصبحت أحد أصحاب المصلحة الذين تزداد أهميتهم في برامج التنويع الاقتصادي لدول الخليج، فقد تضاعفت التجارة الثنائية بينهما خلال الفترة (2005 – 2019) بمقدار ثلاثة أضعاف لتصل إلى 170 مليار دولار، كما سجلت تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة من الصين إلى دول الخيج ارتفاعًا حادًا من 52 مليون دولار في 2005 إلى 1,3 مليار دورلار في 2018، وتركزت الاستثمارات الصينية في الخليج منذ تنفيذ مبادرة الحزام والطريق على قطاع البناء وتشغيل المجمعات الصناعية، مثل “مدينة جازان الصناعية بالسعودية”، وتكمل هذه الاستثمارات التنمية المحلية في الصين وتساعد على تيسير حركة التجارة وتدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى الدول الخليجية، فضلًا عن أن الشركات الصينية تشارك أيضًا في صناعة البتروكيميائيات ومصادر الطاقة المتجددة والاتصالات.
في الخامس والعشرين من مايو الماضي، كتبت مقالًا بعنوان “المقاربة الصينية الشرق أوسطية”، أشرت فيه إلى أن الرؤية الصينية لمنطقة الشرق الأوسط عمومًا والخليج على وجه الخصوص، قائمة على تعميق فكرة “السلام التنموي” بدلاً من فكرة “السلام الديموقراطي” الغربية، لذلك تسعى دول الخليج إلى تحقيق فوائدها الاقتصادية والسياسية مع الدور الصيني المتزايد، إلا أنها تدرك في نفس الوقت حاجتها إلى الموازنة ولو على المديين القصير والمتوسط بعدم إبعاد الولايات المتحدة عن منظومة تحالفاتها القديمة، وهي رؤية صائبة تسمح لها بالاستفادة من جميع أدوار القوى العالمية المؤثرة.
ما يميز التحليل الذي كتبته تشن وأنصح الجميع بقراءته، هو الآفاق المستقبلية حيال النزاع التجاري بين القوتين العظميين، وتأثيره على مواقف الدول الخليجية التي لطالما كانت حليفًا إستراتيجيًا لواشنطن على مدى عقود، وكذلك أصبحت بكين هي الأخرى طرفًا مؤثرًا تتزايد أهميتها في المنطقة في مجالات التجارة والاستثمار والتعاون الصناعي، كما يعتمد كلا الطرفين التجاريين على منطقتنا الخليجية لتحقيق التوازن في سوق الطاقة، بينما قد تؤدي برامج التحول الاقتصادي التي تخضع لها دول المجلس في الوقت الحالي إلى إنشاء أسواق مزدهرة للمنتجات الصينية والأميركية.