إن نجاح موسم حج 1446هـ هو شهادة عملية على أن المملكة العربية السعودية نجحت ليس فقط في إدارة شعيرة مقدسة، بل في تقديم نموذج حيّ للدولة المتكاملة التي تعرف كيف توزع الأدوار، وتضبط الإيقاع..
بداية أهنئ قيادتنا الرشيدة، وشعب المملكة العربية السعودية، وضيوف الرحمن من حجاج بيت الله الحرام، والأمة الإسلامية بعيد الأضحى المُبارك، وكل عام وأنتم بخير.
لم يكن النجاح في موسم حج 1446هـ صدفة ولا ارتجالاً مؤقتًا، بل تجسيدًا لنموذج سعودي أصيل في فن التكامل المؤسسي، حيث أدّت الجهات الحكومية أدوارها بانسجام غير مسبوق، فتحوّل المشهد من إدارة موسم معقّد إلى استعراض فعلي لقوة الدولة التنظيمية، فما الذي حدث فعليًا؟ وكيف تحقق هذا المستوى من الانضباط في واحدة من أعقد العمليات البشرية على وجه الأرض؟
لم تتعامل السعودية مع الحج كحدث تنظمه جهة واحدة، بل كمشروع سيادي تتشارك في تنفيذه الدولة بكل طاقاتها المدنية، والعسكرية، والأمنية، والصحية، والتقنية، وهذا ما يمكن تسميته بـ”منهج الحكومة المتكاملة” حيث لا تُقاس الجهود بعدد المشاركين، بل بمدى التحامهم في تنفيذ خطة موحّدة تصنعها الدولة وتضبط إيقاعها.
من المهم ألا يُفهم النجاح في موسم حج 1446هـ إلا من خلال ما يمكن تسميته بـ”التحكم النشط متعدد الجهات”، فوزارة الحج والعمرة لا تتحرك دون تناغم مع وزارة الداخلية، ووزارة الصحة لا تنفذ خطتها دون أن تستند إلى دعم النقل، كل ذلك يجري تحت إشراف سيادي موحد يمثله “مركز القيادة والسيطرة”، في مشعر منى، قلب إدارة الحج، فمن هذا المركز تدار حركة الحشود، وتراقب كافة المواقع الحيوية في الحرم والمشاعر لحظة بلحظة.
أحد أعقد تحديات الأنظمة الإدارية في العالم هي “الصوامت البيروقراطية” التي تعرقل التعاون بين القطاعات، إلا أن السعودية تجاوزت هذا التحدي بتوحيد الغرض من خلال “خدمة ضيوف الرحمن”، وتجاوز هذا الهدف الحدود الإجرائية وجعل من كل قطاع جزءًا من آلة مركزية تُدير الموسم لا كوظيفة موسمية، بل كمهمة وطنية استراتيجية، وهنا كان للثقافة المؤسسية دور في تحويل كل موظف إلى “سفير” لرسالة الدولة.
القطاع الأمني، غالبًا ما يُربط بالصرامة والعزل، لكنه في موسم حج هذا العام ظهر بوجه إنساني دقيق، ضبط المخالفين دون تعطيل، وتسهيل الحشود، وتأمين الحجاج دون استعراض، ولا يُبنى ذلك في أسابيع، بل هو ثمرة تدريب وهيكلة وتناغم على مدار العام.
في ظروف صحية وبيئية معقّدة، لم تكن وزارة الصحة وحدها في الميدان، كانت هناك منظومة صحية متكاملة من الإسعاف الجوي، والفرق التطوعية، والدعم اللوجستي، والإخلاء الطبي، وتنسيق نقل المرضى، إذ أن التحدي لم يكن طبيًا فقط، بل إداريًا، لكن الجواب جاء في شكل استجابات سريعة ودقيقة تؤكد المعنى التكاملي المؤسسي.
في نموذج الحج، النقل ليس وسيلة تحريك، بل أداة تنظيم للقطارات، والحافلات، المسارات المظللة، وحتى المشي، وكلها تخضع لنظام ذكي للتفويج الجماعي، وهو ما لا يمكن أن ينجح دون شراكة مباشرة مع الجهات الأمنية، والتخطيطية، فكانت كل رحلة حاج محكومة بجداول تشبه خطوط العمليات الجراحية في دقتها، وهو ما جعل التنقل هذا العام جزءًا من التجربة الروحية لا عائقًا لها.
ما يجب الانتباه إليه هو أن السعودية في الحج لا تختبر فقط مدى كفاءة وزاراتها، بل تضع على الطاولة سؤالًا أعمق: هل نستطيع تحويل خدمة الحاج إلى نموذج يُبنى عليه نمط الدولة الحديثة؟ والجواب أن ما حدث في موسم 1446هـ يفتح بابًا كبيرًا لإعادة تصور “الدولة الخدمية” التي توظّف قوتها المركزية لتيسير حياة البشر في أكثر الظروف تعقيدًا.
إن نجاح موسم حج 1446هـ هو شهادة عملية على أن المملكة العربية السعودية نجحت ليس فقط في إدارة شعيرة مقدسة، بل في تقديم نموذج حيّ للدولة المتكاملة التي تعرف كيف توزع الأدوار، وتضبط الإيقاع.. دمتم بخير.
9
يونيو