فتح خط طيران مباشر هو فعل سيادي من جهة الرياض، لكنه في السياق الأوسع ممرٌ سياسيٌ نحو إعادة التمثيل العربي داخل سوريّا، وكسر الحصار المعنوي الذي فُرض على السوريين لا على الدولة، وهي بمثابة إعادة اعتبار لما تعنيه “سوريّا” للعرب، وليس لأي سلطة كانت تُختزل فيها..
حين أعلنت إحدى الناقلات الوطنية السعودية عن تشغيل رحلات مباشرة إلى دمشق اعتبارًا من 5 يونيو الجاري، مرّ الخبر على بعض المتابعين كإجراء خدماتي يعكس تقاربًا دبلوماسيًا، لكنه في الواقع يتجاوز هذا الإطار الضيق، ويُعبّر عن لحظة تحول نوعية في رؤية المملكة تجاه سوريا الجديدة، كجزء من مقاربتها الأشمل لإعادة تشكيل التوازنات العربية.
الربط الجوي بين الرياض ودمشق، يعكس تحولًا سعوديًا واعيًا في أدوات الفعل السياسي، من الاكتفاء بالمواقف الرمزية إلى العمل الحثيث عبر القنوات السيادية، لبدء العلاقة مع سوريا الجديدة، التي دخلت مع رئاسة أحمد الشرع، طورًا انتقاليًا دقيقًا يحتاج إلى تأطير عربي جامع.
إن هذا التحرك السعودي ليس فعلاً ارتجاليًا، بل هو امتداد لمنهج سياسي سعودي جديد يُعيد تعريف مفردات التأثير، ويراهن على ترميم الدول العربية من داخلها، لا بإملاء الشروط، بل بصناعة الجسور، والرحلة من الرياض إلى دمشق ليست إلا أول الطريق، وهي رحلة لا تنقل المسافرين فحسب، بل تنقل موقفًا سعوديًا متقدمًا يقوم على قاعدة أن سوريا تستحق أن تُحتضن عربيًا، وأن أي فرصة لتمكينها من الخروج من العزلة، لا ينبغي أن تُهدَر.
منذ إعلان خلع النظام السابق في دمشق أواخر 2024، وتشكيل الحكومة السورية، لم يخرج الموقف السعودي بأي تصريح دعائي، ولم يطلق حزمة من التهاني، بل اعتمد سياسة “التحرك العملي” كأصدق تعبير عن تبني الواقعية الجديدة، فسوريا 2025 ليست كما كانت في 2011، لا في بنيتها السياسية، ولا في وعي شعبها، ولا في نظرة الإقليم لها، والمملكة بدورها ليست في وارد استنساخ مواقف الماضي أو الوقوف عند مرحلة انتهت، بل ترى أن المرحلة الانتقالية تُشكّل نافذة نادرة لإعادة دمج سوريا في النظام العربي، ولكن هذه المرة على أسس جديدة تضمن السيادة، والمصالحة، والتدرج في البناء.
فتح خط طيران مباشر هو فعل سيادي من جهة الرياض، لكنه في السياق الأوسع ممر سياسي نحو إعادة التمثيل العربي داخل سوريا، وكسر الحصار المعنوي الذي فُرض على السوريين لا على الدولة، وهي بمثابة إعادة اعتبار لما تعنيه “سوريا” للعرب، وليس لأي سلطة كانت تُختزل فيها.
المفارقة هنا أن من ينظر إلى الرحلات المباشرة بوصفها “خدمة لوجستية” فاته أن الطيران السياسي في الشرق الأوسط هو أداة تأثير، ووسيلة اصطفاف، وإشارة اعتراف، وقرار المملكة، في ظل حكومة دمشق الجديدة، بفتح هذا المسار الجوي، يعني انتقالًا إلى المبادرة المدروسة.
ومن المهم أن تُقرأ هذه المبادرة في ضوء سرديتها الاتصالية الواقعية، وهي أن سوريا اليوم تحتاج فتحًا ذكيًا لمسارات اقتصادية، تخفف من سطوة العقوبات وتُنعش الداخل، وفي قلب هذا التحول تقف الرياض، لا بوصفها مركزًا ماليًا فقط، بل كعاصمة سياسية تبلور ما يمكن تسميته بـ”المقاربة العربية لمرحلة ما بعد الأنظمة”، وهي مقاربة لا تقوم على التهنئة الرمزية أو الترقب الحذر، بل على إعادة تموضع الدول المتداعية داخل السياق العربي بأدوات واقعية، مثل: الطيران، والدبلوماسية، والاستثمار، والتنسيق الأمني.
ولعل زيارة وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان إلى دمشق، السبت الماضي، جاءت لتضع إطارًا سياسيًا لما ترمز له الرحلات الجوية، فالسعودية لا تُطبّع مع الماضي، بل تُشارك في صناعة الحاضر.
هذه الخطوة تُحمّل العرب، والخليج تحديدًا، مسؤولية تاريخية، ففتح الطيران وحده لا يصنع دولة، بل هو بداية طريق، والمطلوب الآن: دعم الاقتصاد السوري عبر برامج تمويل عربية، لا ترتهن لشروط دولية مُعطّلة، وبناء شراكات مباشرة مع المؤسسات الجديدة في سوريا، وتمكين الإعلام العربي من تغطية التحول في سوريا، ونقل رواية جديدة تنزع الغبار عن وطن أُنهك بالتشويه، وأخيرًا، احتواء سوريا الجديدة ليس تحت جناح دولة بعينها، بل في عباءة عربية جامعة، تقودها الرياض بحكمتها السياسية، وقدرتها على الموازنة بين الاستقرار والسيادة.
عندما تقلع أول طائرة سعودية بمشيئة الله من مدينة الرياض إلى دمشق الخميس المُقبل، فهي لا تطير باتجاه مطار فقط، بل إلى حقبة جديدة من الانفتاح العربي على ذاته، واستعادة دولة من براثن الانهيار.. دمتم بخير.. وعيد أضحى مُبارك، وحج مبرور وسعي مشكور لحجاج بيت الله الحرام.
2
يونيو