لم يعد الحديث عن الاستثمار محصورًا في المال والعقود، بل في رأس المال الإنساني الذي يُعدّ الركيزة الحقيقية لأي ازدهار مستدام، فالتحول الذي تقوده المملكة عبر مبادرة مستقبل الاستثمار يشمل التعليم، والتقنيات العميقة، وتمكين المرأة والشباب، وتطوير البنية التشريعية، وهو ما يجعل “الازدهار” مفهومًا للحياة الحديثة نفسها..
في مشهد رمزي مهيب غير استعراضي تقني، شاهد العالم روبوتًا يقدّم “مفتاح الازدهار” في حفل افتتاح النسخة التاسعة من مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار، وهي رسالة عميقة تؤكد أن الذكاء الصناعي لم يعد أداة مساعدة، بل أصبح شريكًا في إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي.
منذ انطلاقتها قبل أقل من عقد من الزمن، تحولت مبادرة مستقبل الاستثمار من منصة حوار إلى قوة تأثير دولية تسهم في إعادة تعريف مفهوم الاستثمار ذاته، فالغاية ليست في جذب رؤوس الأموال أو توقيع الاتفاقيات، بل في إعادة هندسة الاقتصاد ليكون أكثر شمولًا وإنسانية واستدامة.
تحت شعار هذا العام “مفتاح الازدهار”، تُطل المبادرة كمنصة لتحرير الاقتصاد العالمي من قيود النماذج القديمة التي أرهقها التفاوت والتضخم والجمود الهيكلي، لتطرح بديلاً يقوم على الذكاء، والتعاون، والتكامل بين الحكومات والقطاع الخاص.
قال ياسر بن عثمان الرميان، محافظ صندوق الاستثمارات العامة ورئيس مجلس الأمناء لمؤسسة مبادرة مستقبل الاستثمار: إن العالم لم يعد يحتمل الانتظار، فالنماذج السابقة فقدت قدرتها على مواكبة المستقبل، ولا يمكن للحكومات أن تنهض وحدها، كما لا يستطيع القطاع الخاص تحمّل العبء بمفرده، وهنا تكمن جوهرية المبادرة؛ بكونها ليست تجمعًا نخبويًا، بل محاولة لتأسيس عقد اقتصادي جديد يتقاسم المسؤولية بين القوى الفاعلة في العالم.
ما يجعل مبادرة مستقبل الاستثمار استثنائية ليس حجمها أو حضورها الدولي فحسب، بل كونها نتاجًا مباشرًا لرؤية السعودية 2030 التي قادها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والتي وضعت الإنسان في قلب عملية التنمية، وجعلت من الاستثمار وسيلة لخلق القيمة، لا لاحتكارها، ما يعني أن الرياض أصبحت مركزًا لتوجيه رأس المال العالمي نحو الفرص الجديدة، بعدما قدّمت المملكة نموذجًا مختلفًا، من حيث اقتصاد متنوّع بقطاعات واعدة في الصناعة، والسياحة، والتقنية، والطاقة المتجددة، والتعليم والذكاء الاصطناعي.
وفي كلمات الرميان، ما يلخّص هذا التحول: “قدّمنا المملكة للعالم، والآن العالم يأتي إلى المملكة”، فالسعودية أصبحت من صانعي معادلات الاقتصاد الجديدة، وتلك نقلة جاءت نتيجة عمل تراكمي متسارع حقّق خلال تسع سنوات ما كانت دول تحتاج إليه عقودًا.
إحدى رسائل هذا العام البارزة هي أن الذكاء الاصطناعي ليس تهديدًا بل أداة لتحرير الإمكانات البشرية، ففي ظل القلق العالمي من فقدان الوظائف والتفاوت الرقمي، تطرح المبادرة منظورًا أكثر توازنًا: التقنية لا تُقصي الإنسان، بل تُعيد تمكينه.
بات الاستثمار في الذكاء الاصطناعي والروبوتات جزءًا من منظومة إنتاجية جديدة تُحرّر الموارد، وتزيد الكفاءة، وتفتح آفاقًا غير مسبوقة للنمو، وهو ما يتسق مع رؤية المملكة في جعل التقنية محركًا للعدالة الاقتصادية لا أداةً لتعميق الفجوات.
تحمل المبادرة بُعدًا عالميًا لا يخلو من البعد الإنساني، فحين يتحدث القادة عن “تحرير الاقتصاد العالمي”، فإنهم يقصدون كسر القيود التي كبّلت النمو لعقود: الاحتكار، والانغلاق، والتنافس الصفري، ما يعني أن العالم اليوم بحاجة إلى منظومة تفكير تشاركية تتجاوز الحسابات السياسية نحو هندسة اقتصادية جديدة تعيد توزيع القيمة، وتمنح الأسواق الناشئة حقها في النمو والمنافسة، ومن خلال ما شهدته الرياض من جلسات ضمّت قادة شركات كبرى، بدا واضحًا أن هناك إجماعًا جديدًا على مركزية الخليج، والسعودية تحديدًا، في حركة رؤوس الأموال العالمية.
لم يعد الحديث عن الاستثمار محصورًا في المال والعقود، بل في رأس المال الإنساني الذي يُعدّ الركيزة الحقيقية لأي ازدهار مستدام، فالتحول الذي تقوده المملكة عبر مبادرة مستقبل الاستثمار يشمل التعليم، والتقنيات العميقة، وتمكين المرأة والشباب، وتطوير البنية التشريعية، وهو ما يجعل “الازدهار” مفهوما للحياة الحديثة نفسها.
أثبتت المملكة للعالم أن النمو لا يُقاس فقط بالناتج المحلي، بل بقدرة الدول على خلق بيئات تعلّم، وابتكار، واستدامة، ومن هنا تتجاوز المبادرة حدود الاقتصاد لتلامس ملامح المستقبل الإنساني ذاته.
إن “مفتاح الازدهار” الذي حمله الروبوت في الافتتاح لم يكن قطعة معدنية رمزية، بل تعبير عن روح جديدة تنبع من الرياض، لتقول للعالم إن الازدهار لم يعد حكرًا على القوى التقليدية، فالعالم يحتاج اليوم إلى قيادة تتقدّم نحو المستقبل بجرأة، وتمنح الأفكار فرصة لأن تتحوّل إلى واقع.
أصبحت مبادرة مستقبل الاستثمار، مختبر الأفكار الكبرى، ومنصة الحوار الجاد بين المال والمعرفة، وبين التقنية والإنسان، ومن هنا، فإن “مفتاح الازدهار” هو الالتزام الأخلاقي والاقتصادي بفتح أبواب النموّ المشترك.. دمتم بخير.
6
نوفمبر