الأزمة الحقيقية تكمن في أمرين: الأول يتعلق بما يمكن الاصطلاح عليه بـ”حرب البيانات”، فالأميركان يرون أن بياناتهم تذهب إلى الصين، وهذا خطر على الأمن القومي الأميركي.. والثاني؛ عدم امتلاك الأميركان أي سلطة تنفيذية على “تيك توك” خاصة في ظل الاحتجاجات التي تجتاح الولايات المتحدة بفعل الشباب وطلبة الجامعات الذين يشكلون شريحة نوعية من المستخدمين..
سيثبت 2024 أنه عام مضطرب آخر للعلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، خاصة في ظل العوامل التي ستهدد بعرقلة ذوبان الجليد الذي أنشأه الجانبان على مدار العام الماضي (2023)، ويبدو أن مسألة تمدد الصراع الجيوسياسي ستتفاقم هذه السنة، بعد إقرار المشرّعين الأميركيين من الحزبين الديمقراطي والجمهوري في “مجلس النواب الأميركي” -بالأغلبية- مشروع قانون يرغم شركة “بايت دانس” الصينية المالكة لـ “تيك توك” ومقرها بكين، التخلي عن التطبيق في غضون 180 يومًا -أي سحب استثماراتها- وإلا سيتم حظره داخل الولايات المتحدة إذا لم تمتثل الشركة لذلك.
حظي المشروع بدعم 352 مقابل معارضة 65 فقط، وهي دلالة على التأييد الكبير له في صفوف الحزبين الرئيسين في البلاد، الذين يحذرون من الخطر الكبير لـ “تيك توك” على أمن الولايات المتحدة القومي؛ لأنه يسمح للحكومة الصينية بـ”مراقبة الأميركيين والتأثير عليهم”، فهناك 170 مليون مُستخدم للتطبيق في أميركا وحدها، أي أنها تحتل المرتبة الأولى على مستوى العالم من حيث استخدامه.
السؤال هنا: هل “تيك توك” مملوك بشكل كامل للصين؟ الإجابة لا بالطبع، وسنعود لاحقًا لتفاصيل ذلك، ولكن علينا أولًا معرفة سياسات المرشحين للانتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة بين الرئيس الحالي “جو بايدن” والسابق “دونالد ترمب” تجاه مسألة حظر التطبيق، بايدن قال باختصار إنه سيوقع على التشريع حالما يصله من مجلس الشيوخ الأميركي، إلا أن الرئيس الأميركي السابق ترمب، يعارض الحظر -رغم أنه حاول حظره في عام 2020- بحجة أن ذلك سيعطي ميزة غير عادلة لـ”فيسبوك” الذي يعتبره عدو الشعب، إضافة إلى خشيته من فقدان الشباب لصوابهم في حال حظره، وذلك في إشارة واضحة إلى تأثير الموسم الانتخابي على هذه التصريحات العلنية، في ظل سعي المرشحين لاستقطاب أصوات هذه الشريحة العمرية التي تُشكل خزانًا مهمًا للأصوات الانتخابية.
لكن المسألة بالنسبة لترمب مختلفة نوعًا ما، ويعزو تغيير موقفه هذا إلى علاقته المقربة بجيف ياس، وهو من المتبرعين الجمهوريين الكبار، ويملك حصة بمليارات الدولارات في “تيك توك”، لذلك تشير المعلومات المتداولة من أن مستشارة ترمب السابقة والمقربة منه، كيلي آن كونوي، تلعب دوراً بارزاً في عمليات مجموعات الضغط الداعمة للتطبيق في “الكونغرس الأميركي”.
ماذا يعني فرض الحظر على “تيك توك”؟ يعني أن ملايين المستخدمين الحاليين للتطبيق الصيني في الولايات المتحدة -أكبر سوق له على مستوى العالم- لن يتمكنوا من تحديثه أو إعادة تنزيله إذا قاموا بحذفه أو أرادوا تثبيته على هاتف جديد، ومن خلال منع الوصول إلى التحديثات، بمرور الوقت، سيصبح قديمًا، لكن هذا لن يوقف استخدامه بين عشية وضحاها، إذ من الممكن أيضا أن يظل تيك توك متاحا للمستخدمين الذين يتحايلون على القانون باستخدام الشبكات الخاصة الافتراضية التي تقوم بتشفير حركة المرور على الإنترنت وإخفاء عناوين “IP”.
الأزمة الحقيقية بشأن التجاذب الحاصل تكمن في أمرين رئيسين: الأول يتعلق بما يمكن الاصطلاح عليه بـ”حرب البيانات”، فالأميركان يرون أن بياناتهم تذهب إلى الصين، وهذا خطر على الأمن القومي الأميركي، والبيانات اليوم لا تقل أهمية عن النفط، وهي قطاع تجاري كبير يجتاح العالم.. والأمر الثاني، عدم امتلاك الأميركان أي سلطة تنفيذية على “تيك توك” خاصة في ظل الاحتجاجات التي تجتاح الولايات المتحدة الأميركية بفعل الشباب وطلبة الجامعات الذين يشكلون شريحة نوعية من المستخدمين، ويمكن الإشارة هنا إلى التعاطف الحالي مع قطاع غزة، جراء عدوان الاحتلال الإسرائيلي، والذي زادت رقعته بحيث لا يمكن ترقيعه من قبل الساسة، الذين وجدوا أنفسهم بفعل التطبيق في مواجهة مباشرة مع الشارع الأميركي.
المسألة برمتها كما قلت في السياق السابق تتجاوز حظر التطبيق من عدمه، بل هو جزء من الصراع الأميركي الصيني الكبير، الذي سيتمدد أكثر من ذي قبل، وسيأخذ أبعادًا متعددة في كل مرحلة سياسية يعيشها العالم، فالأميركيون ما زالوا يعيشون داخل دائرة القلق الصيني المتعاظمة، ويحاولون إيقاف تقدمها السريع، باعتبارها خطرًا يهدد مركزية قوتها العالمية، وأتوقع -وسبق أن كتبت مقالات كثيرة في هذا الجانب- أشكالا مختلفة من الصراعات بين الطرفين، قبل الوصول إلى مرحلة المواجهة المُباشرة.. دمتم بخير.