قرارات قيادتنا الرشيدة الداعمة للغة العربية، لا تدافع عنها بوصفها موروثًا فقط، بل تُعدّها مشروعًا مستقبليًا بكل ما تعنيه الكلمة، وفي الوقت الذي تُواجه فيه كثير من اللغات خطر الذوبان في موجة التقنية، ترسم السعودية بالعربية معادلة جديدة: لغة تنبض بالحياة، وتتحدث للمستقبل بلغة الخوارزميات..
في زمن التحولات الرقمية الكبرى، تفرض التقنيات الذكية إيقاعها السريع على العالم، مهددة بذلك تنوّع اللغات وتوازنها في الفضاء الرقمي، وفي ظل هذا التحدي، برزت المملكة العربية السعودية كقوة ثقافية رقمية تعي تمامًا أن بقاء اللغة العربية في طليعة المستقبل لا يتحقق إلا بتكامل اللغة مع أدوات الذكاء الاصطناعي، وليس بمواجهة الزمن أو الحنين إلى الماضي.
لم يكن هذا الوعي خطابًا ثقافيًا مُعممًا، بل تم تحويله إلى استراتيجية مؤسسية شاملة، تقودها مبادرات نوعية أطلقها مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، وهو الكيان الذي أعاد تعريف وظيفة المجامع اللغوية ليس فقط كجهات علمية، بل كمنصات سيادية تؤثر في شكل حضور اللغة في المستقبل.
بدأ المسار بإطلاق “مؤشر اللغة العربية”، وهو أول أداة قياس كمية ونوعية توفّر بيانات دقيقة حول أداء اللغة العربية في مختلف الدول والمجالات (التعليم، والإعلام، والتقنية.. إلخ)، ما يتيح تصورًا شاملًا لواقع اللغة واتخاذ قرارات تستند إلى معطيات علمية، ويتجاوز هذا المؤشر فكرة المرصد الرقمي، إلى كونه بوابة لرسم السياسات اللغوية على المستوى الدولي.
وفي السياق ذاته، تم إطلاق مؤشر “بلسم”، وهو مبادرة رائدة تقيس مدى قدرة نماذج الذكاء الاصطناعي على التعامل مع اللغة العربية بنجاح، وذلك من خلال تقييم مخرجات النماذج اللغوية مثل الترجمة، وتوليد النصوص، والتحليل الدلالي، وتضع هذه الخطوة المملكة في موقع قيادي على مستوى تطوير الحوسبة اللغوية بالعربية، في وقت تعاني فيه لغات كثيرة من التهميش داخل بيئات الذكاء الاصطناعي العالمية.
وأما في عالم البيانات، لا يكفي أن نرصد أو نقيس، بل يجب أن ننتج. ومن هنا جاءت منصات “فلك”، و”سوار”، فالمنصة الأولى تُعنى بتوسيع المدونات اللغوية، وقد أضافت أكثر من 72 مليون كلمة جديدة إلى المحتوى العربي، ما يشكّل ثروة رقمية هائلة تعزز من وجود العربية في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، كالمساعدات الذكية، والمترجمات الفورية، وأنظمة البحث.
أما “سوار”، فهي مخصصة للمعاجم اللغوية، وقد أسهمت في إغناء الصناعة المعجمية بأكثر 7 آلاف كلمة مضافة، ما يوفر قاعدة بيانات لغوية دقيقة تخدم المطورين والمترجمين والمبرمجين، وتمكنهم من استخدام اللغة العربية بكفاءة في التطبيقات الرقمية.
لا يمكن فهم هذه المبادرات إلا في إطار استراتيجي أوسع تسير فيه المملكة، يتمثل في رؤية السعودية 2030، والاستراتيجية الوطنية الثقافية التي وضعت الثقافة واللغة ضمن أولويات التحول الوطني، وبات واضحًا – وفق المنظور السعودي – أن اللغة العربية، لم تُصبح وسيلة للتواصل اللغوي فقط، بل عنصر من عناصر السيادة الرقمية، ومجالًا للاستثمار، وسلاحًا ناعمًا لصياغة الحضور الثقافي والسياسي في العالم الرقمي.
ولعل أهم ما يميز هذا التوجه السعودي هو المزج بين أصالة اللغة وتراثها العميق، والحداثة التكنولوجية، ما يجعل المملكة تقدم نموذجًا متوازنًا في التعامل مع اللغة: لا انفصال عن الجذور، ولا انغلاق أمام المستقبل.
من خلال هذه المبادرات، تؤكد المملكة أن اللغة العربية عنصر فاعل في القوة الناعمة العالمية. وعندما تصبح اللغة العربية قادرة على التفاعل مع خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وعلى الترجمة الآلية بدقة، وعلى توليد المحتوى تلقائيًا، فإن ذلك يُحدث تحولًا نوعيًا في مكانة المتحدثين بها، ويمنحهم نفوذًا في موازين القوة الجديدة.
ومن هنا، فإن دعم اللغة العربية بالذكاء الاصطناعي ليس ترفًا ثقافيًا كما يتصور البعض، بل هو واقعيًا، ضرورة استراتيجية لحماية الهويّة وتعزيز القدرة التنافسية للأمة العربية في الاقتصاد الرقمي.
في نهاية المطاف، فإن قرارات قيادتنا الرشيدة الداعمة للغة العربية، لا تدافع عنها بوصفها موروثًا فقط، بل تُعدّها مشروعًا مستقبليًا بكل ما تعنيه الكلمة، وفي الوقت الذي تُواجه فيه كثير من اللغات خطر الذوبان في موجة التقنية، ترسم السعودية بالعربية معادلة جديدة: لغة تنبض بالحياة، وتتحدث للمستقبل بلغة الخوارزميات.. دمتم بخير.
16
يونيو