للانكماش الاقتصادي العالمي، مسببات عديدة منها هبوط أسعار النفط، وازدياد مواطن الضعف المرتفعة الناجمة عن زيادة الدين العام، والدين الخارجي للعديد من البلدان، ولذلك تأثيرات اجتماعية عميقة تعيشها الكثير من الدول النامية والمتقدمة على حد سواء..
في الثاني والعشرين من أبريل 2020، كتبتُ مقالًا مطولًا نشره موقع “العربية. نت”، تحت عنوان “كورونا القشة التي قصمت ظهر الاقتصاد”، مُلخصه أن الانكماش أو التراجع الاقتصادي الذي يشهده العالم اليوم في مختلف أنحاء المعمورة، لم يكن بسبب جائحة “كوفيد-19” -كما يعتقد الكثير- بل كان أحد العوامل التي سرَّعت من المتغيرات الاقتصادية السلبية، واستندت حينها على لغة الأرقام والحقائق المجردة الواردة في أهم التقارير الصادرة عن “صندوق النقد الدولي”، و”مجموعة البنك الدولي”.
للانكماش الاقتصادي العالمي، مسببات عديدة منها هبوط أسعار النفط، وازدياد مواطن الضعف المرتفعة الناجمة عن زيادة الدين العام، والدين الخارجي للعديد من البلدان، ولذلك تأثيرات اجتماعية عميقة تعيشها الكثير من الدول النامية والمتقدمة على حد سواء.
الكساد العالمي الذي تتبلور مرئياته يومًا بعد آخر، هو شبيه بالكساد الكبير الذي حدث في ثلاثينيات القرن العشرين، (24 أكتوبر 1929)، عندما باع متداولو سوق البورصة الأميركية في يوم واحد 12.9 مليون سهم، ما أدى إلى تراجع قيمة الأسهم إلى 23% ثم بدأ يفقد السوق قيمته تدريجيًا حتى وصل إلى فقد 91% من قيمته، واستمرت آثاره إلى نهاية الحرب العالمية الثانية (1945).
من يقرأ المؤشرات الاقتصادية بتفحص، ويتابع مخرجات الدراسات الدولية ذات الصلة بهذا الموضوع الحيوي، يدرك بما لا يدع مجالًا للشك من أن تداعيات الانكماش الاقتصادي ربما ستستمر آثاره حتى نهاية 2025، وأشير هنا إلى أحدث التأثيرات الارتدادية العكسية الاجتماعية، التي بدأت تظهر في الولايات المتحدة الأمريكية، ففي الثلاثين من أغسطس الماضي (2021) أصدرت مجموعة جولدمان ساكس المالية الدولية (تأسست 1869) المتخصصة في الاستشارات المالية والاستثمارية، تقريرًا صاعقًا بفيد باحتمالية طرد 750 ألف أسرة أمريكية من منازلها المستأجرة، بسبب عدم قدرتهم على تسديد المستحقات، والذي جاء بعد إلغاء المحكمة العليا للقرار الفيدرالي، الخاص بتعليق إخلاء المنازل، الذي فرضه الرئيس بايدن؛ بسبب الجائحة. وتشير تقديرات جولدمان، إلى أن 2 إلى 3 ملايين أسرة متأخرة فعليًا عن تسديد إيجاراتها، ويبلغ مجموع قيمتها المستحقة للملاك ما بين 12 إلى 17 مليار دولار، لكن أخطر ما جاء في التقرير، هو أن المساعدات التي قدمتها الحكومة الأمريكية للولايات البالغة 25 مليار دولار؛ لتوفير الدعم للأسر وأصحاب العقارات، لم يستفد منها سوى 350 ألف أسرة فقط، وبهذه الوتيرة البطيئة، سيبقى ما يقارب من مليون إلى مليوني أسرة من دون مساعدة، وهو ما يعني أنها معرضة لخطر الإخلاء السكني بنهاية الشهر الجاري، وهو ما سيسبب ارتفاعًا في نسبة التضخم الإسكاني بالولايات الأمريكية وصل إلى 3.5% بعد أن كان 2.2%، ومن المتوقع أن يصل في العام المقبل (2022) إلى حدود 4.6%..
إذن ماذا يعني هذا؟ يعني ذلك ما ذكرته في المقال السابق، وهو أن الأعراض قد بدأت بالظهور، من خلال تصاعد نسب التضخم على حساب التراجع الاستهلاكي، الحالة الأمريكية ليست خاصة، بل سيتكرر هذا السيناريو في بلدان مختلفة، وهو ما سيؤدي إلى زيادة البطالة بين القادرين على العمل، مع تراجع كبير في مستويات التوظيف بأسواق العمل، وتقلص الانفاق الاستهلاكي بالنسبة للفرد والأسرة، وارتفاع في نسب التضخم مما يعطيها هذه الأزمة طابعًا خاصًا يجب التعامل والنظر له بعناية، لذلك أكدت في مقال العام الماضي، والجديد الحالي، أن “كوفيد-19” سرَّع من وتيرة الأزمة، وإن كان هناك من وزر يتحمله الفيروس، فهو في توقيت ظهوره لا أكثر؛ لأن جميع الحكومات كانت تدرك منذ وقت مبكر عمق هذه المواجهة غير المسبوقة، والتي تختلف تماًمًا عن ركود 1923.
صحيح أن حالة الكساد الاقتصادي، لن تستمر إلا بضع سنوات قليلة، إلا أن على الدول مجتمعة البحث عن الحلول الاقتصادية الفعّالة والنوعية، وسرعة دخولها وتنميتها لمسارات “الاقتصادات الرقمية”، والعمل الجاد في تنويع قاعدتها الاقتصادية، وعدم اعتمادها على مورد رئيسي واحد، وهو ما وعته الحكومة السعودية، التي بدأت منذ خمس سنوات تقريبًا في إعادة هيكلة قطاعها المالي والإنفاقي، ووضع خطط متكاملة للإصلاحات الاقتصادية والمالية، وتسريع توجهاتها الاقتصادية الرقمية، وتفعيل الدور الاستثماري لصندوق الاستثمارات العامة، وهو ما يقوي من مركزها المالي، لذلك ستكون تأثيرات الركود العالمي عليها محدودة جدًا. النقاشات العميقة في مراكز التفكير والدراسات الاقتصادية والمالية، تذهب إلى أهمية إحداث تغييرات على النظام المالي العالمي، لمواجهة المتغيرات الجديدة للركود، لأن اقتصاد ما بعد “كورونا” لن يكون كما قبله.. دمتم في حفظ الله.