رغم أهمية المنصات الاجتماعية في تعزيز عمليات التواصل بين الناس، إلا أنها أفرزت في المقابل معادلة «اكتشاف وجوه الناس المتذبذبة»، وسابقًا كان يقال «اعرف الناس من أفعالهم وليس من أقوالهم»، إلا أن هذه المقولة تبدلت وتغيرت تمامًا بـ 360 درجة..
يتفق غالبيتنا أن منصات التواصل الاجتماعي “تويتر، سناب شات، كلوب هاوس، انستغرام، فيسبوك” وغيرها من الأدوات الأخرى، وفرت لمستخدميها في الواقع إمكانية تطوير الذات، وتوسيع المفاهيم وتنمية الإدراك، واكتساب مهارات التواصل، والتعرف إلى الآخرين بمختلف العادات والتقاليد والأجناس، وتوسيع الإدراك المعرفي والثقافي، وتعلم اللغات، لذلك تُعد اليوم واحدة من أبرز الوسائل التي يُمكن من خلالها الاطلاع على المعلومات الحديثة والمختلفة، إما عن طريق البحث أو ظهورها أمامهم بمحض الصدفة أثناء تصفح نوافذها المختلفة، كما أنها تُقدم لمستخدميها إمكانية فهم اهتمامات المستخدمين الآخرين النشطين على هذه المنصات.
ورغم أهمية المنصات الاجتماعية في تعزيز عمليات التواصل بين الناس، إلا أنها أفرزت في المقابل معادلة “اكتشاف وجوه الناس المتذبذبة”، وسابقًا كان يقال “اعرف الناس من أفعالهم وليس من أقوالهم”، إلا أن هذه المقولة تبدلت وتغيرت تمامًا بـ 360 درجة، حتى أصبحت بضاعة الناس من أقوالهم المحمود منها والمذموم منتشرة كالنار في الهشيم على الملأ الافتراضي، كما هي من دون تزيين أو تجميل ديكوري معرفي، وهذا إن كان في ظاهره أمرٌ إيجابي، إلا أنه يحمل الكثير من المنغصات على مستوى القناعات الشخصية عند البحث في بواطنه العميقة.
وربما السؤال المركزي الذي أسأله ويسأله غيري من الناس المهتمين بالتواصل عبر منصات الشبكات الاجتماعية المختلفة هو: لماذا نصاب بالحيرة والتشتت وعدم الفهم تجاه بعض الأشخاص الذين كنا نحمل لهم التقدير والإعجاب سابقًا؟ هذا التساؤل رغم أهميته الكبرى -بالنسبة لي- لن أستطيع استيفاء إجابته بشكل كُلي في هذا المقال المحدد بكلمات معدودات، لكن سأحاول قدر الإمكان الدوران حول مداره، من خلال تقديم مؤشرات غير قطعية نستطيع أن نبني عليها ملامح من الإجابات، وإن كنت أوافق تمامًا على ما طرحه غيري من أن تناقض الأشخاص بين “الواقع الحقيقي” و”واقع الشبكات الافتراضية”، يحتاج من دارسي علم الاجتماع إعمال دراساتهم الإنسانية لفهم دلالات هذا التناقض غير المفهوم قبل وبعد دخول المنصات.
الكثير منا سمع عن أشخاص حملوا في ذواتهم الإنسانية التقدير والإعجاب لبعض الشخصيات في مجتمعنا؛ لنتاجهم الفكري، أو السياسي، أو الإعلامي، أو الأدبي، أو العلمي، أو لكونهم ناشطين مميزين، بزغوا في مجالات محددة، لكن ما يحدث عند انكشاف طروحاتهم في المنصات الاجتماعية يغير قناعتنا الشخصية تجاههم 180 درجة، والسبب ببساطة شديدة، ظهورهم على حقيقتهم، حتى أنك تود أن تقوله بالعبارة العامية “ليتك ما دخلت”، من حيث مستوى الأفكار أو الأجندات التي يحملها ويروجها، وتتفاجأ من بعضهم كونه حاملًا لشهادة علمية عليا من إحدى الجامعات العالمية المرموقة، ورفضه تقبل الرأي الآخر في نقاشات تحتمل التباين، والمصيبة الكبرى في أمثال هؤلاء الناس المنكشفين، تضاءل مستوى وعيه في القضايا الكبرى، خاصة الوطنية منها، وانخفاض مستوى تعبيره الدلالي عن آرائه بشكل منطقي سليم.
والداهية الكبرى بعضهم أو بعضهن -دون تسمية لأحد- يدخلون المجتمع في قضايا ليس لها علاقة بأي شيء سوى فقط أن يظهروا على السناب شات لا أكثر، على هؤلاء أن يعرفوا أن المنصات الاجتماعية للإثراء في المقام الأول والأخير.
لست هنا في موقع التنظير أو الطرح الفلسفي على الإطلاق، بقدر ما أحاول الإسهام في رفع جودة المحتوى المعرفي، وأهمية توريث ذلك للجيل الجديد من الشباب والفتيات الذين يمثلون النسبة الديموغرافية الأكبر في المملكة العربية السعودية؛ لأن القضيتين المركزيتين الغائبتين اليوم على جغرافية منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، هما غياب “الوعي” و”الثقافة”، وأستطيع التأكيد من خلال العينات التي تقع بين أيدينا، أن منصات التواصل الاجتماعي لم تُسهم فقط في كشف عورات الوعي لدى البعض، بل الأخطر من ذلك توريث هذا النقص بشكل مباشر وغير مباشر على الجيل الجديد.. دمتم بخير.