هناك دولً بحسب صندوق النقد الدولي ستتكيف مع الأزمة -من بينها السعودية- التي تستطيع تخفيف أعباء الصدمة داخليًا لتمتعها باحتياطات نقدية ضخمة، واتخاذها حزمة تدابير اقتصادية عاجلة، واعتمادها على تشابك قطاعاتها الاقتصادية المتنوعة، وفتح أسواق نفطية جديدة
في 22 أبريل الماضي، كتبتُ مقالًا استشرافيًا بعنوان “كورونا.. القشة التي قصمت ظهر الاقتصاد”، وكان توقيت نشره قبيل إعلان الولايات المتحدة الأميركية عن نتائج ربعها الاقتصادي الأول لـ2020.
أهم ما جاء في متن المقال السابق، أنه لا يمكن على الإطلاق تحميل فيروس كورونا (COVID-19)، المسؤولية الكاملة للتراجع الاقتصادي العالمي والإقليمي، لكونه عاملاً ضمن حزمة متنوعة من العوامل الجزئية الأخرى، وهو ما ذهبت إليه أهم المؤشرات الاقتصادية الدولية والإقليمية، ومن ذلك تقرير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في “صندوق النقد الدولي” المعنون بـ”مستجدات آفاق الاقتصاد الإقليمي”، والذي يقع في 29 صفحة، وصدر في 15 أبريل الماضي، وهو تقرير غاية في الأهمية، وأهم السياقات الواردة في بُنية تحليله، أن المنطقة ستسجل خلال العام الجاري (2020) انكماشاً اقتصادياً في إجمالي الناتج القومي المحلي، وذلك بعد خفض توقعات النمو إلى أكثر من أربع نقاط مئوية، وهو ما يعادل استبعاد 425 مليار دولار من ناتج منطقة الشرق الأوسط، وهو أعلى من التعديلات المسجلة أثناء الأزمة المالية العالمية (2008) وصدمة أسعار النفط (2015).
وفي ظل النتائج العالمية الاقتصادية السلبية، وازدياد مواطن الضعف المرتفعة الناجمة عن زيادة الدين العام والدين الخارجي لغالبية البلدان، خاصة أن الديون الكبيرة التي تستحق آجالها تُشكل مخاطر على التمويل في ظل الظروف الحالية للأسواق الدولية والإقليمية والمحلية.
كل المُعطيات التي تابعتها خلال الفترة الماضية، من خلال رصد مؤشرات المراكز الاقتصادية التحليلية الحكومية الرسمية، دفعتني منذ أبريل الماضي إلى طرح التساؤل الاستشرافي المركزي، التالي وهو: هل سيرى الاقتصاد العالمي، كسادًا شبيهًا للكساد الكبير الذي حدث في ثلاثينيات القرن العشرين؟، خاصة بعد ما أعلنه مكتب التحليل الاقتصادي الأميركي (BEA)، الخميس الماضي من انكماش قياسي بلغ 31,7 % للناتج الإجمالي المحلي في الربع الثاني، فهل يعني هذا دخولها في إرهاصات الكساد؟ وهل تتكرر صورة كساد 1929 الكبير في نسخة الألفية الجديدة؟.. لذلك حذر خبراء اقتصاديون في استطلاع أجرته الرابطة الوطنية لاقتصاديات الأعمال (NABE) في العشرين من أغسطس الجاري، من أن الولايات المتحدة لا تزال عالقة في الركود، ومن المرجح أن يستغرق الأمر سنوات حتى يعود النمو الاقتصادي إلى مستويات ما قبل جائحة فيروس كورونا، وأن الناتج المحلي الإجمالي الأميركي لن يتعافى إلى مستويات ما قبل “الوباء” حتى العام 2022.. ويعني ذلك باختصار إغلاق الشركات وتسريح العمال على نطاق واسع.
حدث الكساد الكبير الأول في (24 أكتوبر 1929)، عندما باع متداولو سوق البورصة الأميركية في يوم واحد 12.9 مليون سهم، ما أدى إلى تراجع قيمة الأسهم إلى 23 % ثم بدأ السوق يفقد قيمته تدريجيًا حتى وصل إلى 91 %، وصاحب ذلك ارتفاع في نسب البطالة، وانخفاض للأجور، وفقدان الملايين لوظائفهم، خاصة بعد تدويل الأزمة، مما عمق آثار الكساد العالمي واستمرارها إلى نهاية الحرب العالمية الثانية (1945)، وكان تأثيرها مدمرًا على الدول الفقيرة والغنية، بسبب انخفاض معدل التجارة العالمية بين النصف والثلثين، وتراجع متوسط الدخل الفردي والعائدات، ولمعالجة تلك الآثار تم الاعتماد على ساعة الزمن (أي ترك الأمور للزمن) وامتدادها إلى 15 عامًا تقريبًا!!
لكن الأمر قد يكون مختلفًا الآن أو في العصر الحديث، لكون المتغيرات أفضل بكثير من ظروف الكساد الأول؛ بسبب تطور الحلول الاقتصادية، والاعتماد على التكنولوجية المتقدمة، في تسيير أمور الحياة، وهو ما سيسهم بمشيئة الله في عدم إطالة مدة الكساد التي ستترواح في تقديري من عامين إلى 4 أعوام كحد أقصى، لكن هناك دولًا بحسب صندوق النقد الدولي ستتكيف مع الأزمة -من بينها السعودية- التي تستطيع تخفيف أعباء الصدمة داخليًا لتمتعها باحتياطات نقدية ضخمة، واتخاذها حزمة تدابير اقتصادية عاجلة، واعتمادها على تشابك قطاعاتها الاقتصادية المتنوعة، وفتح أسواق نفطية جديدة، وهو ما سيجعل تخطيها للأزمة سريعًا مقارنة بغيرها من الدول الأخرى على المستويين الإقليمي والدولي.