انطلاقًا من سياقها القيادي المحوري، أعادت الرياض قراءة أولوياتها الاستراتيجية بما يتفق مع مصالحها وأمنها القومي ومصالح الإقليم في الوقت نفسه، وهو الجوهر المهم إذا ما أردنا فهم مُحددات السلوك السياسي السعودي، ورؤيتها في تحريك المياه الراكدة منذ زمن ليس بالقصير، وحلحلة العديد من القضايا العالقة والمعقدة جدًا..
في الفترة القريبة الماضية طالعت الكثير من التقارير التحليلية الصادرة سواء عن مراكز البحث والتحليل الاستراتيجي، أو كبريات الصحف الغربية الرصينة منها وغير الرصينة، والتي تناولت بشيء من التركيز المتعمق دلالات ومتغيرات السلوك السياسي السعودي تجاه أهم منطقة جيوسياسية في العالم الغنية بالنفط والغاز ومصادر الطاقة.
علينا مواجهة بعض الحقائق إذا ما أردنا فعليًا استدراك واستيعاب “السلوك السياسي السعودي” وتبعاته المختلفة بعيدًا عن الإسقاطات والأجندات السياسية غير المتوافقة معنا، فاليوم وبما لا يدُع مجالًا للشك هناك تغيرات ديناميكية سريعة تحدث على مستوى المنطقة ككل -وهذا لا يخفى على أحد- والسعودية شاءت أم أبت جزء لا يتجزأ من هذه المنظومة الإقليمية.
أدى تراجع الولايات المتحدة الأمريكية عن سياق التزاماتها الأمنية الإقليمية، فضلًا عن تزايد حدة الانقسامات والصراعات، إلى دفع الإدارة السياسية السعودية لأخذ زمام المبادرة كدولة قائدة للعالم العربي والإسلامي، في محاولة حثيثة منها لإدارة مركب البوصلة السياسية إلى بر الأمان لها ولشقيقاتها في المنطقة.
انطلاقًا من سياقها القيادي المحوري، أعادت الرياض قراءة أولوياتها الاستراتيجية بما يتفق مع مصالحها وأمنها القومي ومصالح الإقليم في الوقت نفسه، وهو الجوهر المهم إذا ما أردنا فهم مُحددات السلوك السياسي السعودي، ورؤيتها في تحريك المياه الراكدة منذ زمن ليس بالقصير، وحلحلة العديد من القضايا العالقة والمعقدة جدًا، بهدف تعزيز السلم والأمن الإقليمي، وإخراج المنطقة من دائرة الصراعات والنزاعات، على الرغم من التحديات الكبيرة التي واجهتها في سبيل ذلك، وعدم موافقة بعض القوى الدولية الكبرى، إلا أنها استطاعت بدبلوماسية الأطراف الهادئة والفاعلة إلى تحقيق “التوازن” لنقل المنطقة من مرحلة معقدة إلى مرحلة الاستراتيجية التنموية.
ما يؤكد هذه الاتجاهات ما نشرته مجلة “فورين بوليسي” العريقة من أن المملكة العربية السعودية تحظى اليوم بشعبية كبيرة في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما أظهره استطلاع حديث أجرته مؤسسة “غالوب” في 13 دولة ذات أغلبية مسلمة، ذكرت فيه أن السعودية كانت الأكثر شعبية، وكانت سياسيات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الداخلية والخارجية محل إعجاب مجتمعات الدول المستطلعة.
في العامين الأخيرين تحديدًا كانت هناك تعديلات دقيقة ديناميكية في السياسة السعودية الخارجية، تمثلت في توسيع نطاقات التحركات لما هو أبعد من الإقليم، وهذا يحسب لقيادتنا الوطنية، فالمملكة بموقعها الاستراتيجي وقدراتها المالية الهائلة، فضلًا عن خططها الاستثمارية هنا وهناك، وسياساتها الإنسانية المركزة، جعل منها مُحركًا فاعلًا يجتمع على طاولتها الأطراف المتضادة أو غير المتوافقة على أدنى تقدير، وهو ما يُعزز الضمانة الأمنية والاستقرار لها ولدول الإقليم، ويكمن نجاحها هنا في تحقق عوامل “التوازن البراغماتي”.
مع المتغيرات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة، والأولويات الاستراتيجية المتغيرة، وعت الرياض أكثر من غيرها، بأهمية دراسة المخاطر التكتيكية التي يمكن أن تُهدد تغيير المواقف، من خلال عملها الجاد والمؤسسي الدبلوماسي على توفير الحوارات الضمنية الإيجابية مع مختلف مراكز القوى الإقليمية، ووصول الأطراف جمعيًا إلى قناعة تامة بأهمية تعزيز مسألة الأمن والتنمية والازدهار لتحقيق الرفاهية لشعوب المنطقة، خاصة مع تراجع الاقتصاد، وزيادة معدلات البطالة، وتراجع مؤشرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.. دمتم بخير.