إن فكرة البقاء والصمود على خريطة الجغرافيا السياسية مرتبطة في الأساس بالجذور التاريخية والحضارية، وليس فقط بالبنيان والحداثة..
يُعد “مسرح العرائس” أحد أشكال الفن المسرحي العالمي، والتي ينتمي غالبية مُحركيها في القارة الأوروبية إلى الطبقة الاجتماعية الدُنيا، إلا أنه لم ينهج طريق أو أسلوب المسرح الدرامي القائم على الممثلين، بل اعتمد في فلسفة عروضه على العروسة أو الدمية الظاهرة على خشبة المسرح، والتي يحركها تمثيلاً وأداءً شخصية لا تظهر أو تشاهدها الجماهير على الملأ.
عادة ما تكون عروض مسرح العرائس أقرب إلى التهريج والكوميديا المقدمة سواء للصغار والكبار، وهو قديم قدم التاريخ، استخدمته الكثير من الشعوب للتأثير على الأطفال ومخاطبة عقولهم، وتوثيق الكثير من القصص والأساطير الحقيقية والخيالية، إذ استحدثت شخصيات وهمية بالاسم موجودة بالواقع، لتسليط الضوء على موضوع ما، أو للتنبيه على المظلومية، وظهرت الكثير من أشكال الدمى والعرائس التي كانت فيما مضى قليلة التكلفة وسهلة التصنيع، ثم تطورت حتى أصبحت معقدة المعالم تشبه شخصيات الواقع إلى حد كبير، فأصبحت تحتاج إلى الجهد والفن والخبرة في التصنيع.
وحتى إن بدا ظاهرياً أن “مسرح العرائس” يتمتع بالإرث التاريخي، إلا أنه لم يُفلح في الصمود ومقاومة عوامل التعرية الإنسانية؛ لذلك لم يُكتب له أن يترسخ في الذهنية الجمعية، رغم أنه أخذ أشكالاً وأطواراً مختلفة، من حيث الدخول إلى عالم التلفزيون، وتخصيص برامج تلفزيونية وأفلام سينمائية عالمية وعربية اجتهدت في إعادته إلى الواجهة من جديد، إلا أنه ورغم ذلك لم يكتب لهذا الأمر أيضاً النجاح.
ربما السؤال الذي يتداركنا هنا، هو: لماذا لم يُشكل هذا الفن بُعداً تواصلياً ثقافياً وحضارياً مُستداماً مقارنة بأنواع المسارح الأخرى؟ مثل “التراجيدي” و”الكوميدي”، و”التجريبي”، و”الموسيقي”، ناهيك عن المسرح الصوتي الدرامي المعروف بـ”الأوبرا”.
الإجابة عن التساؤل السابق يُدخلنا مباشرة إلى مسار نقاشي مهم، وهو ارتكاز “مسرح العرائس” بالدرجة الأولى على الخطاب الشعبوي، وهذا إحدى الوقائع الجوهرية التي لم تسمح له بالاستمرار، بفعل غياب الأساس الحضاري والثقافي والإنساني.
وعند المقارنة المعيارية بين “مسرح العرائس” وأنواع المسارح الأخرى، نجد أن عوامل البقاء والإرث المستدام لـ”أبي الفنون” ما تزال متجذرة منذ مئات السنين، وأكبر الشواهد على ذلك الأعمال المسرحية الشهيرة التي تُقدم حتى اليوم، ويعاد تدويرها بأنماط وتصنيفات مختلفة، وهو ما ضمن لها الاستمرارية الدائمة، والسبب في ذلك يعود إلى الجينات الثقافية والحضارية، لذلك حتى وإن أصابها بعض التراجع الجماهيري في بعض الوقت، إلا أنها قادرة على إعادة لملمة شعاث نفسها من جديد.
من الشواهد التي تدل على العمق الحضاري والثقافي للمسرح أن العالم ما زال يحتفي بأعمال الشاعر والكاتب المسرحي “وليم شكسبير” منذ أكثر من 400 سنة، ومن محاسن الصدف أن المؤسس الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- التقى حفيد “وليام شكسبير”.
أما سياسيًا فيمكن أن نُسقط هذا التباين المعياري على مقاييس الدول، فهناك من يتمتع منها بإرث حضاري عريق تمتد جذوره إلى مئات السنين في عمق التاريخ، مقارنة بالدول حديثة المنشأ، ما أود قوله في هذا الإطار هو إن فكرة البقاء والصمود على خريطة الجغرافيا السياسية مرتبطة في الأساس بالجذور التاريخية والحضارية، وليس فقط بالبنيان والحداثة.
أخيراً، علينا أن نعلم أنه شتان بين “فن العرائس” و”بطولة الدُمى”، واستمرار وعراقة الفن المسرحي، وهدف الرسوخ والتوثيق الملحمي الحقيقي، لذلك على الجيل الجديد قراءة تاريخ بلادهم باستيعاب عميق حتى لا يلتبس عليهم عظماء التاريخ الحقيقيين من الدُمى، دمتم بخير.