ما يميز هذه الزيارة أنها لا تنطلق من حسابات آنية أو صفقات قصيرة المدى، بل من رؤية استراتيجية طويلة الأمد تسعى إلى بناء علاقة أكثر توازنًا وعمقًا بين الرياض وواشنطن، علاقة تحافظ على إرث الشراكة، لكنها تُعيد صياغته بما يتناسب مع تحولات عالم جديد تفرضه السرعة، والتنافسية، والتنوع في ملفات القوة..
تكتسب زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة الأميركية، أهمية استثنائية تتجاوز إطار الدبلوماسية التقليدية، كونها تأتي في مرحلة تعيد فيها المملكة رسم موقعها على خريطة القوى الدولية، وتستند إلى رؤية استراتيجية تمنح الرياض دورًا قياديًا في صياغة مستقبل المنطقة، في وقت تشهد فيه العلاقات الدولية تحولات عميقة.
الزيارة، كما أعلنت المصادر الأميركية الرسمية، تأتي بدعوة من الرئيس الأميركي دونالد ترمب للقاء في البيت الأبيض، في خطوة تعكس وزن الرياض في حسابات واشنطن السياسية والاقتصادية والأمنية، وقد سبق هذا الإعلان نشاطا دبلوماسيا مكثف في الأسابيع الماضية، شمل اجتماعات لوزراء ومسؤولين سعوديين مع نظرائهم الأميركيين، مما يشير إلى أن الزيارة محطة استراتيجية تمهد لمرحلة جديدة من الشراكة بين البلدين.
منذ نشأة العلاقات السعودية الأمريكية قبل أكثر من سبعة عقود، حافظت الرياض وواشنطن على شراكة راسخة قائمة على المصالح المتبادلة، لكنها اليوم تنتقل إلى مرحلة أكثر نضجاً وتوازناً، فالسعودية ليست شريكًا تقليديًا في ملفات الطاقة والدفاع، بل تحولت إلى محور استقرار إقليمي ولاعب عالمي قادر على التأثير في أسواق الطاقة، وإدارة الأزمات، وصياغة التوافقات السياسية في الشرق الأوسط.
في ظل هذه التحولات، تأتي زيارة ولي العهد بوصفها لحظة اختبار للشراكة الاستراتيجية الممتدة، وفرصة لإعادة ضبط أدوات التعاون بما ينسجم مع أولويات المرحلة، وتشير الاستعدادات المكثفة التي سبقت الزيارة، إلى أن الطرفين يدركان حجم الملفات المطروحة ومدى ارتباطها بمستقبل الإقليم.
لا يمكن قراءة أبعاد الزيارة بمعزل عن التحولات العميقة التي تشهدها المنطقة، فالمملكة اليوم تُقدّم نفسها كقوة إقليمية قادرة على لعب دور محوري في إدارة الملفات الكبرى: الأمن الإقليمي، أمن الطاقة، مسار العلاقات العربية – الإيرانية، ومستقبل القضية الفلسطينية، ومع الانفتاح السعودي على الدبلوماسية متعددة المسارات، باتت الرياض شريكاً لا يمكن تجاوزه في أي ترتيبات تتعلق بمستقبل الشرق الأوسط.
كما أن المملكة تمتلك اليوم أدوات تأثير ناعمة وصلبة، بدءًا من ثقلها الاقتصادي وحضورها الدولي، وصولًا إلى دورها القيادي في مجموعة العشرين، ويمنح هذا الزخم زيارة ولي العهد إلى واشنطن قيمة سياسية عالية، ويجعلها منصة لتأكيد توازن الرياض بين علاقاتها الدولية، مع الحفاظ على استقلال القرار السياسي السعودي.
الولايات المتحدة، رغم انشغالها بملفات آسيا وأوروبا، تدرك أن الشرق الأوسط لا يزال منطقة حيوية لاستراتيجيتها العالمية، ووجود حليف موثوق مثل المملكة يعد ركيزة أساسية في هندسة الأمن الإقليمي، وضمان استقرار أسواق الطاقة في عالم يعاني من التوترات.
وتنص تقارير دولية عديدة على أن السعودية باتت طرفًا قادرًا على التأثير في مسارات القرار الإقليمي، وهو ما يعطي الشراكة مع واشنطن بعدًا جديدًا يتجاوز إطار الاعتمادية القديمة، وتُمثل زيارة ولي العهد بالنسبة للولايات المتحدة فرصة لترميم توازن علاقاتها في المنطقة، وإعادة بناء تحالفاتها التقليدية بما يتماشى مع التحولات العالمية والمتطلبات المحلية للإدارة الأميركية.
تُقدم رؤية السعودية 2030 نموذجًا جديداً للعلاقة السعودية – الأميركية، قائمًا على المصالح المتبادلة وليس على المعادلات التقليدية، فالتنوع الاقتصادي، والاستثمارات الضخمة، والتوسع في الصناعات المستقبلية مثل التكنولوجيا والطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي، تجعل المملكة شريكًا اقتصاديًا عالميًا يفتح آفاقًا جديدة أمام الشركات الأميركية، والجانب المهم هنا أن ولي العهد لا يذهب إلى واشنطن باعتباره قائدًا سياسيًا فحسب، بل بوصفه مهندس أكبر مشروع اقتصادي وتحولي في الشرق الأوسط. وهذا يرفع من قيمة الحوار بين البلدين ويجعله أكثر اتساعًا وشمولاً.
ما يجب أن نفهمه داخليًا، هو أن المملكة تعتمد اليوم على دبلوماسية ترتكز على مبدأ تنويع الشراكات الدولية، وهو ما يمنحها مرونة أكبر في التعامل مع القوى العالمية، بما فيها الولايات المتحدة والصين وأوروبا، وينعكس هذ التوازن على شكل جديد من التعامل السعودي – الأميركي، وهي علاقة لا تقوم على الاعتمادية من طرف واحد، بل على المصالح المشتركة واحترام السيادة وتوازنات الإقليم.. وهذا ما يجعل زيارة ولي العهد بوصفها حدثًا استراتيجيًا، تأتي ضمن رؤية واضحة تنسجم مع مكانة السعودية في النظام الدولي، ومع سعيها لأن تكون مركزًا للتأثير وصناعة القرار.
ويمكن هنا أن نضع على الطاولة مكاسب هذه الزيارة بالنسبة للمملكة، والتي تتمحور في: ترسيخ موقعها بوصفها شريكًا عالميًا في الاقتصاد والطاقة والأمن الإقليمي، وتعزيز حضورها في الساحة الدولية عبر بناء علاقات متوازنة مع القوى الكبرى، إلى جانب فتح مجالات تعاون جديدة تتجاوز الملفات التقليدية، وتنسجم مع رؤية 2030، ودعم استقرار المنطقة عبر تنسيق المواقف في القضايا الحساسة، ومن بينها مستقبل السلام الإقليمي.
أما بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، فتكمن مكاسبها في تعزيز تحالفها مع دولة محورية قادرة على التأثير في أسواق الطاقة العالمية، والحصول على شريك إقليمي يتمتع بشرعية سياسية وثقل اقتصادي، إضافة إلى دعم استراتيجيتها في الشرق الأوسط عبر شراكة أكثر توازناً مع الرياض، والاستفادة من دبلوماسية سعودية نشطة قادرة على المساهمة في حلحلة ملفات المنطقة.
وما يميز هذه الزيارة أنها لا تنطلق من حسابات آنية أو صفقات قصيرة المدى، بل من رؤية استراتيجية طويلة الأمد تسعى إلى بناء علاقة أكثر توازنًا وعمقًا بين الرياض وواشنطن، علاقة تحافظ على إرث الشراكة، لكنها تُعيد صياغته بما يتناسب مع تحولات عالم جديد تفرضه السرعة، والتنافسية، والتنوع في ملفات القوة.. دمتم بخير.
17
نوفمبر