تعيش تركيا اليوم تخبطًا محليًا وإقليميًا ودوليًا منقطع النظير لم تشهده البلاد منذ اعتلاء حزب أردوغان سدة الحكم في 2002، فالرجل خسر قياداته السياسية المرموقة من عبدالله غل، إلى علي باباجان، وأحمد داود أوغلو، ومُني حزبه بضربة قاصمة في الانتخابات البلدية الأخيرة التي شهدتها البلاد، وخسارته لبلدية إسطنبول الكبرى
تحليلان جوهريان نشرتهما الفورين بوليسي المجلة الأميركية العريقة والمتخصصة في السياسة والاقتصاد عن تركيا في العام (2013)، يُمثلان في سياقهما التحليلي قراءة واقعية مستقبلية في حينه، لمآلات فشل السياسة التركية – تحت ظل نظام الرئيس رجب طيب أردوغان- في تحقيق السلم والأمن الإقليميين، ناهيك عن تفكك وتآكل وتشرذم البُنية السياسية الداخلية إلى مستوى لم تعهده البلاد من قبل.
التحليل الأول نشر في 20 مارس 2013، بعنوان “صفر مشكلات في عصر جديد”، لأحمد داود أوغلو، وهو رئيس وزراء تركيا الأسبق والقيادي المنشق عن حزب أردوغان الحاكم “العدالة والتنمية”، والرئيس الحالي لحزب “المستقبل”، وصاحب الفلسفة السياسة الخارجية آنذاك “لا مشكلة مع الجيران”، كمحاولة لنزع فتيل الأزمات المزمنة مع جميع جيرانها تقريبًا، وهي خلافات كانت بمثابة حواجز هائلة أمام تطبيع علاقات أنقرة الإقليمية والدولية.
السؤال المحوري الذي يجب طرحه على الفليسوف الدبلوماسي “أحمد داود أوغلو” بعد سبع سنوات من كتابته لمقاله: ماذا تحقق من نظريتك السياسية؟.. الجواب باختزال شديد “لا شيء”.. فعلاقات أنقرة الإقليمية وصلت إلى درجة من التعقيد وعدم الأمان السياسي، بل أصبحت إن لم أبالغ أحد الأسباب الاضطراب الإقليمي الرئيسية، فتدخلها العسكري في ليبيا زاد من تعقيد الأزمة، ناهيك عن تورطها بالأزمة السورية منذ اندلاعها في 2011 من دون خطة مناسبة للخروج، وتقربها من روسيا على حساب حلفائها الغربيين، لذا وجه الرئيس السابق والعضو المؤسس للحزب الحاكم في تركيا، عبدالله غول، تصريحات نارية ضد الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، مشيرًا إلى أن “مشكلات تركيا مع الولايات المتحدة جعلتها تقترب أكثر من روسيا، لكن الابتعاد عن الغرب سيضعف الديمقراطية التركية ومناخها التعددي”.
لقد وصلت علاقات تركيا بجيرانها المؤثرين في المنطقة إلى مستوى متدني جدًا، خاصة مع المملكة، التي جهدت بمنع وصول العلاقة لهذا المنعطف، ونسترجع في هذا السياق تصريحات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في 24 أكتوبر2018 خلال “مبادرة مستقبل الاستثمار” بعد الحادث الأليم للصحافي جمال خاشقي، مؤكدًا حينها أن هناك من يحاول استغلال الحادثة لإحداث شرخ بين السعودية وتركيا”، وقال بكل ثقة: “لن يحدث هذا الشرخ بين البلدين طالما أن هناك الملك سلمان بن عبدالعزيز، وهناك ولي عهد اسمه محمد بن سلمان، ورئيسًا تركيًّا اسمه رجب طيب أردوغان”.. لكن ماذا فعّل أردوغان؟.. زاد الشرخ والطين بلة!
أما المقال الثاني الذي نشرته الفورين بوليسي في 21 ديسمبر 2013، بعنوان “نهاية أردوغان” كتبه جون حنا المستشار الأول لمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، والمستشار السابق للأمن القومي لنائب الرئيس الأميركي الأسبق ديك تشيني، مستشرفًا في حجم التغول الأمني لأردوغان بعد ذلك في السلك القضائي والأمني، إثر توجيه الشرطة التركية تهم فساد مالي بمئات الملايين من الدولارات بحق عدد من الوزراء وأبنائهم وبعض رجال الأعمال، وهي القضية التي عرفت إعلاميًا بـ “الانقلاب الأبيض”، وكانت بمثابة أولى معارك الكر والفر بين أردوغان فتح الله غولن.
المسألة الجوهرية التي أماط جون حنا اللثام حولها، هي “التغول الأردوغاني” الذي حصل في السلك العدلي والأمني وتدخلاته المباشرة في التعيين للموالين له على حساب الكفاءة، ناهيك عن الاعتقالات التي جرت إثر “الانقلاب المزعوم” في 2016 بين صفوف الضباط والأفراد بحجة انتمائهم لجماعة غولن، وهو ما حول الجمورية التركية إلى جمهورية الرجل الواحد، وهو ما سيورد البلاد المهالك!.
تعيش تركيا اليوم تخبطًا محليًا وإقليميًا ودوليًا منقطع النظير لم تشهده البلاد منذ اعتلاء حزب أردوغان سدة الحكم في 2002، فالرجل خسر قياداته السياسية المرموقة من عبدالله غل، إلى علي باباجان، وأحمد داود أوغلو، ومُني حزبه بضربة قاصمة في الانتخابات البلدية الأخيرة التي شهدتها البلاد، وخسارته لبلدية إسطنبول الكبرى، أمام مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض أكرم إمام أوغلو الذي فاز في الانتخابات مرتين، الأولى في مارس 2019، وتم الطعن في نتائجها، وعند إجراء انتخابات الإعادة، نجح أوغلو أيضًا بفارق 13 ألف صوت عن منافسه علي بن يلدريهم، لينهي بذلك 25 عامًا من سيطرة حزب أردوغان على إسطنبول، وتمثل هذه النتيجة انتكاسة كبيرة بكل المقاييس.. وعلى عهدة أردوغان “من يفوز باسطنبول يفوز بتركيا”.
نعم .. لقد استنفد الرجل جميع رهاناته الداخلية والخارجية، وها هو يُسطِّر “نهايته السياسية”، فهل سيصمد حتى نهاية ولايته عام 2023؟!