تسعى دول الخليج إلى تحقيق فوائدها الاقتصادية والسياسية مع الدور الصيني المتزايد، إلا أنها تدرك بعمق حاجتها إلى الموازنة ولو على المديين القصير والمتوسط بعدم إبعاد الولايات المتحدة عن منظومة تحالفاتها القديمة..
في أكتوبر الماضي (2019) نشر المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR)، دراسة جيوسياسية في غاية الأهمية، بعنوان “China’s great game in the Middle East” أي (اللعبة الصينية العظيمة في الشرق الأوسط)، وهي مُوجهة بالدرجة الأولى إلى صُناع القرار الأوربيين؛ لإيضاح تبعات الدور الصيني المتعاظم في منطقتنا الاستراتيجية، وتعريف ساسة القارة العجوز بطبيعة تحالفات بكين القوية في المنطقة، خاصة مع الدول الخليجية، والقائمة على مشروعات الطاقة، والبنية التحتية، والتجارة الحرة، والتكنولوجيا المتقدمة.
يمكنني اختزال أهم النقاط المحورية الواردة في الدراسة التحليلية الأوروبية، والتي اختلف مع بعض توجهاتها العامة، منها:
- ستضطر الصين للوجود السياسي والأمني في المنطقة خاصة بعد الانسحاب الأميركي المتوقع، رغم عدم رغبتها بذلك؛ لأن ذلك سيجرها إلى نزاعات لا علاقة لها بأهدافها الأساسية.
- هناك نقاش واسع داخل الصين حول ما إذا كانت مشاركتها ضرورية لحماية مصالحها الاقتصادية في المنطقة، بعد تزايد عدد الخبراء الصينيين الذين يرون أن على بلادهم تعزيز وجودها العسكري، والتخلي عن صورتها كراكب حر.
- تعتمد الرؤية الصينية للعالم العربي خصوصًا، ومنطقة الشرق الأوسط على وجه العموم على تعميق فكرة “السلام التنموي” بدلاً من الفكرة الغربية المتمثلة في “السلام الديموقراطي”.
المقاربة الصينية للشرق الأوسط مستمرة في التشكل ولكن بنمط هادئ جدًا، فما يشغل بال الصينيين التجارة بالدرجة الأولى، وليس التوسع العسكري، إلا في نطاقات محورية محددة، من خلال إنشائها أول قاعدة عسكرية خارجية لها في جيبوتي، فضلاً عن العسكرة المحتملة لميناء جوادار الباكستاني، وهو ما يجعلها قريبة من نقاط الاختراقات البحرية المهمة في مضيق هرمز وباب المندب.
وعند نقاش الوضع الصيني في الشرق الأوسط، يتجلى سؤالان رئيسان، الأول هل بكين متهيئة للحلول مكان واشنطن في حال انسحاب الأخيرة من منطقتنا؟ والثاني: هل ستتخلى دول الخليج عن حليفها الاستراتيجي لصالح الصينيين؟
أعتقد – وهو ما تؤكده بعض مراكز الأبحاث الدولية – أن الصينيين حريصون على عدم الانخراط كثيرًا في المنطقة، فهي ما زالت تعتقد أن الولايات المتحدة الأميركية يُمكنها أن تتحمل مسؤولية إدارة الأمن الجيوسياسي لأهم منطقة حيوية في العالم، وأما بالنسبة للرياض الحليف الاستراتيجي الأبرز لواشنطن، فأتصور أن القيادة السعودية تملك من الحنكة السياسية ما يكفيها، فهي لن تقدم على هذا الأمر، لكنها في الوقت نفسه نجحت بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان من فهم المتغيرات الدولية بارتفاع أسهم المارد الصيني خلال السنوات المقبلة، من خلال إعادة منظومة توازنها الاستراتيجي في علاقاتها مع الصين، عبر نتائج الزيارة الحيوية التي قام بها للصين (فبراير 2019)، ونتذكر تصريحات سموه بأن التنسيق السعودي – الصيني فعال على المستوى الاقتصادي، حيث ارتفع التبادل التجاري بين البلدين في 2018 إلى 32 %، وتعد الصين الشريك التجاري الأكبر للمملكة، حيث بلغت قيمة واردات المملكة من الصين أكثر من 46 مليار دولار في 2018، وفي تلك الزيارة أكد ولي العهد خلال اجتماعه برئيس جمهورية الصين الشعبية شي جين بينغ، على أن الجزيرة العربية جزء رئيس من مبادرة طريق الحرير، وعلى تلاقي توجهات الصين الاستراتيجية بشكل كبير مع رؤية 2030، وفي قطاع النفط، تعتبر الصين أكبر سوق للنفط في العالم، والسعودية هي ثاني أكبر مصدر للنفط لبكين بعد روسيا.
تسعى دول الخليج إلى تحقيق فوائدها الاقتصادية والسياسية مع الدور الصيني المتزايد، إلا أنها تدرك بعمق حاجتها إلى الموازنة ولو على المديين القصير والمتوسط بعدم إبعاد الولايات المتحدة عن منظومة تحالفاتها القديمة، خاصة أن صناع القرار الخليجيين يعتقدون جازمًا بأن ليس لدى الصين القدرات العسكرية واللوجستية (وربما الإرادة السياسية) لتوفير البديل الموثوق للمظلة الأمنية الأميركية في الخليج، لقد نشرت الولايات المتحدة عشرات الآلاف من قواتها في المنطقة وحافظت على قواعدها في الدول الخليجية – باستثناء السعودية – كما تملك قواعد أخرى في أفغانستان، والعراق، والأردن، وتركيا، وسورية.
وتشير ذات الدراسة الأوروبية إلى محور مهم، وهو أنه على الرغم من عدم اليقين المتزايد في العلاقات الأميركية – الخليجية، إلا أن القادة الخليجيين يعتقدون أن هذه العلاقة تُسهم في الحفاظ على السلام والاستقرار، وفي الدفاع عن مصالحها الإقليمية للسنوات المقبلة، وهنا أمر آخر لا يقل أهمية عن السياق السابق، فالعلاقات العسكرية القوية بين الجانبين قد تحد من زيادة الوجود العسكري الصيني في الشرق الأوسط.
خلاصة القول: لا تريد دول الخليج الإضرار بعلاقاتها العسكرية مع الولايات المتحدة من خلال الانخراط في الكثير من التعاون العسكري مع الصين.