إن قراءة متأنية لنتائج قمة المنامة تظهر أن الخليج يتجه نحو مرحلة أكثر وضوحًا في التفكير الاستراتيجي، وأكثر جرأة في تبنّي مشروعات مشتركة تقودها رؤية مستقبلية متناسقة، وفي قلب هذا التحول، تظل المملكة عنصرًا أساسيًا في صياغة الاتجاهات الكبرى، سواء عبر دعم التكامل الاقتصادي، أو تعزيز الأمن الجماعي، أو حماية استقرار المنطقة في ظل محيط مضطرب..
في لحظة إقليمية شديدة التعقيد، جاءت القمة الخليجية السادسة والأربعون في المنامة لتعيد ضبط المشهد من زاوية الضرورة الاستراتيجية، من خلال الحفاظ على أمن دول مجلس التعاون بوصفه وحدة لا تتجزأ، وتأكيد سيادة دوله ورفض أي تدخلات خارجية أو تهديدات تمس استقرار المنطقة، ولم يكن المبدأ الذي تصدّر «إعلان الصخير» موقفًا سياسيًا، بل قراءة واعية لحجم التحديات التي تتعرض لها المنطقة، ولحاجة الخليج إلى أن يتعامل معها بصوت واحد ورؤية مشتركة.
لقد عكست القمة -بمضامينها وقراراتها- إدراكًا خليجيًا متناميًا أن البيئة الجيوسياسية الراهنة لا تسمح بهوامش واسعة للمناورة الفردية، وأن التحولات من حولنا تتطلب منظومة جماعية أكثر تماسكًا وقدرة على الاستجابة، فالتوترات الإقليمية، وتعدد ساحات النزاع في العالم العربي، وتزايد محاولات التدخل الخارجي، كلها عوامل وضعت دول المجلس أمام اختبار حقيقي لمدى صلابة البناء الخليجي، ومن هنا برزت قوة الرسائل التي حملها بيان القمة، خصوصًا ما يتعلق بالتضامن الأمني والسيادي، وهي رسائل تُعدّ بمثابة تجديد للعهد بين دول المنطقة أن أي استهداف لطرف هو استهداف للجميع، وأن الأمن الجماعي أصبح شرطًا لبقاء الاستقرار.
وفي الجانب السياسي، حرص إعلان الصخير على تأكيد دعم إقامة الدولة الفلسطينية وفق حل الدولتين، وعاصمتها القدس الشرقية، باعتباره الخيار الواقعي الوحيد الذي يضمن الأمن والاستقرار في المنطقة، وهذا التأكيد الخليجي لا ينفصل عن صياغة موقف عربي موحّد يسعى إلى إطفاء بؤر التوتر ومعالجة جذور الصراع، بما يتسق مع الدور الإقليمي المسؤول الذي يحرص عليه مجلس التعاون في لحظة تشهد انكشافًا واسعًا للأزمات في المنطقة.
أما في الجانب التنموي والاقتصادي، فقد جاء اعتماد إنشاء الهيئة الخليجية للطيران المدني، وإطلاق منصة الخليج الصناعية، والشروع في تنفيذ المركز الخليجي للثورة الصناعية الرابعة، والتقدم في مشروع الاتحاد الجمركي عبر منصة تبادل البيانات الجمركية 2026، ليمثل انتقالًا مهمًا من الخطاب إلى الفعل، وهذه المشروعات خطوات تأسيسية لبناء اقتصاد خليجي متشابك، قادر على المنافسة عالميًا، ومتجه نحو المستقبل بتركيز على الابتكار واللوجستيات وسلاسل الإمداد، وببساطة، هي معالم مرحلة جديدة من التكامل، تُبنى فيها القوة الاقتصادية بالتوازي مع القوة السياسية.
وفي السياق ذاته، حمل الاجتماع الرابع لمجلس التنسيق السعودي – البحريني برئاسة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والأمير سلمان بن حمد دلالات تعزز مسار الشراكة الثنائية الغنية بين البلدين، وتؤكد أن العلاقات الخليجية باتت تتحرك نحو نماذج تعاون أكثر عمقًا واندماجًا، قائمة على المشروعات المشتركة والرؤى الاقتصادية المتداخلة التي ترفع من مستوى الجاهزية الاستراتيجية لدول المجلس.
ومع ذلك، تبدو المملكة اليوم في موقع محوري ضمن هذه المنظومة الخليجية المتطورة، فدورها يتجاوز المبادرة السياسية إلى هندسة توازنات الإقليم عبر رؤية واضحة تقوم على تعزيز الاستقرار، وتفعيل الدبلوماسية الوقائية، ودعم الحلول السياسية للأزمات، وتطوير التكامل الاقتصادي، وهذه الأدوار لا تتولد من فراغ، بل من مكانة المملكة وثقلها السياسي والاقتصادي وثبات سياساتها الإقليمية، إضافة إلى قدرتها على بناء شراكات فاعلة تسند مسار التنمية والأمن في المنطقة.
إن قراءة متأنية لنتائج قمة المنامة تظهر أن الخليج يتجه نحو مرحلة أكثر وضوحًا في التفكير الاستراتيجي، وأكثر جرأة في تبني مشروعات مشتركة تقودها رؤية مستقبلية متناسقة، وفي قلب هذا التحول، تظل المملكة عنصرًا أساسيًا في صياغة الاتجاهات الكبرى، سواء عبر دعم التكامل الاقتصادي، أو تعزيز الأمن الجماعي، أو حماية استقرار المنطقة في ظل محيط مضطرب.
من هنا يمكن القول: إن إعلان الصخير وثيقة سياسية تعبّر عن إعادة صياغة التوازنات الخليجية برؤية إيجابية ناضجة، وتحمل في طياتها رسالة أعمق، وهي أن التحديات التي تمر بها المنطقة ليست قدرًا محتومًا، بل فرصة لبناء منظومة خليجية أكثر تماسكا، ودور سعودي أكثر تأثيرًا في المرحلة المقبلة.. دمتم بخير.
8
ديسمبر