تُمثل خطوة بوبا العربية بإطلاقها أول شبكة “بدون موافقات مسبقة” في قطاع التأمين الصحي السعودي أكثر من مسار تطوير تقني أو تسهيل لوجستي؛ إنها تعبير عن تحوّل فلسفي عميق في نظرة شركات التأمين للرعاية كحق، لا كمعاملة، وما قامت به لا يندرج فقط ضمن تحسين العمليات، بل يمثل نقلة نوعية في فهم العلاقة بين المؤمن له ومقدم الخدمة..
في عالم يُفترض فيه أن تكون الرعاية الصحية أقرب ما يكون إلى حقٍّ فوري لا ينتظر، لا تزال التعقيدات الإدارية تقف عائقًا بين المريض والطبيب، حتى في أكثر النظم تطورًا، فعندما يتلقى المريض تشخيصًا مقلقًا، ثم يُطلب منه الانتظار لا لغياب الأسرّة أو الأطباء، بل لمجرد صدور “موافقة مسبقة” من شركة التأمين، وبذلك تتحول البيروقراطية من آلية تنظيم إلى عامل تأخير، بل وربما إلى فجوة صحية مؤجلة العواقب.
هذه الحالة لم تعد مقبولة في زمن التحول الرقمي، ولا تتماشى مع التصورات الحديثة للرعاية المتمركزة حول الإنسان، ولا مع طموحات النظم الصحية التي تسعى إلى الكفاءة، دون أن تضحّي بالكرامة أو الوقت. اليوم، تُطرح تساؤلات جوهرية: متى تنتهي الحاجة إلى انتظار “الإذن” لتلقي العلاج؟ وماذا لو تمكن النظام الصحي من إعادة توزيع الثقة، بحيث يُعامل المريض كمحور لا كمجرد حالة تحت المراجعة؟
لطالما شكلت “الموافقات المسبقة” في قطاع التأمين الصحي نقطة توتر مزمنة، تتجلى حين يُضطر المستفيد إلى الانتظار –أحيانًا لساعات– من أجل استصدار إذن بسيط لتلقي العلاج، وعلى الرغم من أن الهدف الأصلي لهذا النظام هو ضبط الإنفاق الطبي، فإن الواقع كشف عن كلفة غير مرئية، مثل هدر الوقت، وتأخر التشخيص، إرباك المرضى، وانخفاض جودة التجربة الصحية عمومًا.
وفي هذا الإطار، تُمثل خطوة بوبا العربية بإطلاقها أول شبكة “بدون موافقات مسبقة” في قطاع التأمين الصحي السعودي، أكثر من مسار تطوير تقني أو تسهيل لوجستي؛ إنها تعبير عن تحوّل فلسفي عميق في نظرة شركات التأمين للرعاية كحق، لا كمعاملة، وما قامت به لا يندرج فقط ضمن تحسين العمليات، بل يمثل نقلة نوعية في فهم العلاقة بين المؤمن له ومقدم الخدمة، وبإزالة هذا الحاجز البيروقراطي، تُعيد الشركة ترتيب أولوياتها، واضعة “تجربة المستفيد” في قلب نموذجها التشغيلي، وهو ما يتناغم مع توجهات المنظومة الصحية السعودية في ظل برنامج تحول القطاع الصحي (أحد برامج رؤية السعودية 2030)، نحو نموذج “الرعاية المتمركزة حول الإنسان”.
المبادرة التي أطلقتها بوبا العربية بالتعاون مع أكثر من 7 مستشفيات في ثلاث مناطق، استفاد منها حتى الآن أكثر من 200 ألف عميل، وفق تصريحات الشركة، وهذه الخطوة تتقاطع مع ما يعرف عالميًا بنموذج “prior-authorization-free networks”، وهو نموذج متقدم بدأ يلقى رواجًا في أسواق التأمين المتقدمة مثل السويد وكندا وبعض الولايات الأميركية، خاصة في برامج الرعاية المدارة (Managed Care).
هذا النموذج، بحسب دراسة حديثة من معهد Health Affairs الأمريكي، يسهم في خفض معدلات إعادة الإدخال للمستشفيات بنسبة تصل إلى 12 %، ويزيد رضا المستفيدين بنسبة تفوق 30 % مقارنة بالأنظمة التقليدية القائمة على الموافقات المسبقة.
رغم أهمية المبادرة، إلا أن نجاحها لا يُقاس فقط بعدد المستفيدين أو المستشفيات المشاركة، بل بقدرة الشركة على ضبط التكلفة، ومنع إساءة الاستخدام، وضمان جودة الخدمة في ظل غياب الرقابة اللحظية التقليدية.، فأيّ خلل في التوازن بين سهولة الوصول وجودة العلاج قد يؤدي إلى نتائج عكسية.
كما أن التوسع المستهدف ليشمل 15 إلى 20 مستشفى جديدًا خلال 2025 يضع على الشركة مسؤولية تطوير أدوات بديلة للرقابة تعتمد على الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، لرصد مؤشرات الاستهلاك غير الرشيد أو الأخطاء الطبية، دون العودة إلى مركزية “الموافقة المسبقة”.
هذه المبادرة ليست فقط تقنية أو تشغيلية؛ بل تعكس تحولاً في الفلسفة التأمينية من كونها أداة لإدارة المخاطر والتكاليف إلى كونها شريكًا فاعلًا في تمكين الصحة، والاستثمار في جودة الحياة، وهذا الاتجاه ينسجم مع التحولات العالمية حيث لم تعد شركات التأمين تكتفي بدور “الضامن”، بل تتحول إلى شركات رعاية صحية رقمية (Digital Health Insurers)، مدفوعة بثلاث قوى رئيسة، وهي: ارتفاع توقعات المستفيدين، وتطور التقنية الصحية، فضلًا عن ضغوط الحكومات نحو نظم صحية مستدامة.
اللافت أن هذه المبادرة قد لا تبقى حكرًا على بوبا العربية. إذ يُتوقع أن تُشكل ضغطًا تنافسيًا على بقية شركات التأمين، التي ستُضطر لإعادة تقييم نموذج خدماتها، ومن هنا يمكن قراءة “شبكة بدون موافقات” كبداية لسباق استراتيجي بين الشركات نحو تقديم قيمة أعلى، وليس فقط تخفيض أقساط التأمين.
وفي حال نجحت بوبا العربية في موازنة السهولة مع الجودة والرقابة، فإنها قد تؤسس لمرجعية جديدة في قطاع التأمين الصحي السعودي، قائمة على الثقة، والمرونة، والابتكار في تجربة العميل.. دمتم بخير.
14
أبريل